للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استغناء الصحابة عن تعلم التوحيد رواية ودراية برؤية النبي وسماعه]

وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، يقول أحد العلماء في معجزاته: نور به عن تهج صحبه غني وغير أصحابه مما وحى وهجا (نور به عن تهج صحبه غني): أصحابه استغنوا عن التهجي والقراءة والكتابة، (وغير أصحابه مما وحى وهجا) أي: مما كتب وقرأ، فنحن اشتغلنا بالقراءة والكتابة لأننا محتاجون إلى ذلك، ولكن النور الذي كان فيه هو أغناهم عن هذا.

ومن هنا فإن أتباع الصحابة أيضاً لم تكن حاجتهم إلى تفصيل هذه العلوم مثل حاجة أتباع التابعين، وبدأت الحاجة من عصر أتباع التابعين، فهو وليد الحاجة، ولا يقال: إن هذا العلم لم يكن موجوداً في عصر الصحابة ولم يهتموا به، بل كان موجوداً، لكن كان في ثنايا القرآن وفي ثنايا السنة مثل غيره من العلوم الأخرى، كذلك الفقه وكذلك الأصول وكذلك الحديث دراية وكذلك التفسير، كلها كانت مجتمعة مع الكتاب والسنة، وقد بينا من قبل أن الوحي يبحث فيه من جهتين: جهة الورود وجهة الدلالة.

وكل العلوم الشرعية راجعة إلى هذين البحثين: بحث الوحي من جهة الرواية وبحث الوحي من جهة الدراية، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً.

أما جهة الرواية فلسماعهم من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤]، فهو الصادق المصدوق، ولسماع بعضهم من بعض وهم جميعاً عدول؛ لأن الله تعالى عدلهم في كتابه فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٩٦]، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:١٠٠]، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:١٨]، فأثبت لهم الرضا، وإذا ثبت لهم الرضا انتفى عنهم الفسق؛ لأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين.

وإذا انتفى عنهم الفسق ثبت لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، فإما أن يكونوا عدولاً وإما أن يكونوا فساقاً، ولا يمكن أن يثبت لهم العدالة والفسق في وقت واحد، ولا يمكن أن يرتفعا عنهم في وقت واحد، إذا ارتفع عنهم الفسق وجبت لهم العدالة، فلما ثبت لهم الرضا، الذي لا يكون عن القوم الفاسقين ثبتت كذلك لهم العدالة، فإذاً هم عدول، فهذا المجال مجال الرواية.

أما مجال الدراية فلم يحتاجوا إلى البحث فيه كثيراً؛ لأن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته، وإزالة الشبهة وطرد الشيطان بمجرد وجوده كافٍ لتجاوزهم كل العقبات، فقد يشك الإنسان كثيراً من الشكوك، وتأتيه كثير من الوساوس والأوهام، وبمجرد أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب عنه الشيطان فيزول عنه كل ذلك.

فنحن اليوم مشكلتنا هذا الصراع الشديد المستعصي مع الشيطان، فيأتينا بالشبهات ويأتينا بالشهوات ونغرق في هذه الأمور، لكن هم بطرد الرسول صلى الله عليه وسلم للشيطان تنتفي عنهم هذه الأمور كلها وتزول، بعلاجه بكلمة واحدة أو بنظرة واحدة.

كذلك فإنهم عاشوا في البيئة التي نزل فيها الوحي، فحضروا نزول الآيات، وحضروا ورود الأحاديث، وفهموا لغة العرب على وجه السليقة، لأنها كانت لغتهم، ولم تختلط الحضارات بعد، ولم تتغير الدلالات، فلم يحتاجوا إلى البحث في مجال الدراية.