للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصه]

ومسألة زيادة الإيمان ونقصه، قد اختلف فيها أيضاً على ثلاثة أقوال: فذهب جمهور السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، واستدلوا على ذلك بعدد من الآيات التي فيها ذكر زيادة الإيمان مثل قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:١٢٤]، وكذلك قول الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:٤]، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:١٣]، وكذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠]، فهذا يقتضي زيادة الإيمان، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن الإيمان يخلق ويجد في القلوب.

المذهب الثاني: ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة الذين ذكرناهم من أهل العراق مثل: حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما، حيث قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

والمقصود عندهم القناعة القلبية؛ لأن من لم يصل إلى درجة اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك لا يسمى مؤمناً؛ لأننا عرفنا الإيمان في القلب بأنه التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، فعلى هذا من لم يكتمل هذا الجزم في يقينه وفي قلبه لم يؤمن بعد؛ لأن من شك أقل شك فهو غير مؤمن.

المذهب الثالث: ما روي عن مالك رحمه الله رواية لا أدري مدى صحتها، ولكنها مذكورة في بعض كتب العقائد، أنه قال مرة: إن الإيمان يزيد ولكنه لا ينقص، أو امتنع عن القول بنقصه، واستدل على ذلك بحرفية النصوص؛ لأن النصوص جاء فيها ذكر الزيادة ولم يرد في نص واحد منها ذكر النقص، فقال: أقف عند النص في مسمى الإيمان ولا أتعداه.

وكان رحمه الله يعجبه التقيد بالنصوص في المجال العقدي، لما ذكرناه من أن قاعدة العقائد التسليم بالنص وعدم مجاوزته، ولم يرد في أي نص لا من كتاب ولا من سنة ذكر النقص، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان يجد ويخلق)، فقوله: (يخلق) يدل على النقص.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن،)، ونحو ذلك؛ فهذا لا يقتضي نقصه فقط بل يقتضي مفارقته لصاحبه، وقد اختلف في المقصود به فقيل: الوازع الناشئ عن الإيمان الذي يمنع الإنسان من اقتراف المعصية سماه النبي صلى الله عليه وسلم هنا إيماناً، وهذا يفارق صاحبه وقت المعصية قطعاً.

وقالت طائفة أخرى: بل المقصود نور الإيمان؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:٥٢]، فنور الإيمان يفارق الإنسان وقت مقارفته للمعصية، فسمي ذلك مفارقة للإيمان كله.

وقيل: إن النفي مجازي لا حقيقي؛ لأن المقصود أن هذا الإنسان لو كان يؤمن بأن الله ينظر إليه وهو الذي حرم عليه هذا لما فعله واقترفه؛ لأنه لو نهاه ذو سطوة وقوة عن أمر وكان قائماً عليه بالسيف لم يمكن ليفعله بين يديه وهو يخافه؛ لكن هذا من نقص العقل لا من نقص القناعة؛ لأنه قد يكون أحمق، فيقع فيما نهي عنه وهو يعلم أن العقوبة ستحل به، فيكون هذا نقصاً في عقله لا نقصاً في قناعته.

وعموماً فهذه الأقوال الثلاثة ينبغي أن تكون أيضاً على الخلاف السابق، وأن يكون المقصود أن الإيمان بمعنى فعل القلب، ولا خلاف بأنه لا يزيد ولا ينقص على هذا؛ لأن من كان شاكاً لم يتم جزمه بعد لا يعتبر مؤمناً، وإذا قصد به الإطلاق العام فلا شك أنه يزيد وينقص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وهذا يقتضي كمال الإيمان، وقد ذكر أن له ذروة سنام، وأن له شعباً من استكملها استكمل الإيمان.

فإذاًَ: الخلاف لا ينبغي أن يعود خلافاً جوهرياً أيضاً.