للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال الدولة في المغرب مع الخلافة الإسلامية]

وإن أهل هذه البلاد نظراً لظروفهم التي عاشوها، وتخلفهم الحضاري وانقطاعهم في هذه الصحراء، قد تساهلوا فيما يتعلق بأمر الدولة وقيامها، فلم يكن لهم اتصال بالخلافة العباسية التي كانت في المشرق، ولا بالخلافة الأموية التي كانت في الأندلس، وإنما فتحت هذه البلاد في أيام بني أمية عندما كانوا خلفاء المسلمين بدمشق، وقام بفتحها عقبة بن نافع رضي الله عنه، وبقيت تابعة للخلافة زماناً، مع أنها لا تجد أية صلة بها.

فلما كان في أواسط القرن الرابع الهجري قامت فيها زعامات قبلية، اتفقت بعض قبائلها على تداول السلطة بينها، فيحكم تلك القبائل قائد قبيلة معينة، ثم يسلمها في آخر عمره لقائد قبيلة أخرى، حتى وصلت إلى رجل اسمه تاشتا محمد فأسلمها لرجل فيه صلاح وورع وهو يحيى بن إبراهيم الإبدالي من قبيلة إبدالة، فخرج هذا إلى المشرق ليرى حال المسلمين ويريد الحج، ومر في طريقه ببعض البلدان التي فيها حضارات إسلامية ومنها القيروان، فأعجب بما عليه الناس، فسأل أبا عمران الفاسي أن يوجه معه من يعينه على حكم هذا البلد حكماً إسلامياً، فلم يجد عنده من يستعد لذلك، فكتب له رسالة إلى أحد تلامذته وهو وقاق بن زلو المنفي بالمغرب، فاختار له من بين تلامذته الإمام عبد الله بن ياسين لما وجد فيه من الإخلاص والحركة والنشاط، فجاء عبد الله بن ياسين وأقام الرباط، وأقام أول حركة إسلامية عرفت بالتجديد والإصلاح بعد سقوط الخلافة، فربى الناس تربية مخصوصة، وأقام دولة استطاعت أن تجاهد في سبيل الله، وأن تقيم حدود الله، وأن تعين المظلومين، وأن تعدل في تقسيم الغنائم وغير ذلك، وقامت على أساس دعوة عبد الله بن ياسين دولة المرابطين.

ولكنها بعد سقوطها رجع الناس إلى الفوضى وإلى الحكم القبلي العشائري، واستمروا على ذلك أزمنة طويلة، لكنهم في كل زمان يظهر فيهم من أهل العلم والصلاح من يدعو لإقامة دولة الإسلام، ومن يستنكر الوضع الذي يعيشونه، فهذا الشيخ محمد رحمه الله تعالى يستنكر ما فيه أهل زمانه من ترك إقامة دولة الإسلام وبيعة الخليفة فيقول: أزيلوا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا فيخرج قائم بالعدل منكم فلستم بعده تتقاتلونا وينفي ظلم بعضكم لبعض وبالحد المقام تطهرونا إلى أن يقول فيها: أما تدرون كل بني تميم من الصخر العظيمة يحملونا ويعجز بعضهم عنها وليسوا إذا اجتمعوا عليها يعجزونا كذلك أنتم حيث اجتمعتم على نصب الخليفة تقدرونا ويقول فيها: وقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبونا وقلتم لا إمام بلا جهاد يعززه فهلا تضربونا إذا جاء الدليل وفيه دور كفى ردعاً لقوم يعقلونا ويقول فيها: لتمتثلن أو لأكفرنكم كحسان العلى حين تكفرونا وكذلك.

رحمه الله فإنه أيضاً دعا لمثل هذا حين رأى الفساد الذي في زمانه، وخلد ذلك في قصائده المشهورة، ومنها قوله: حماة الدين إن الدين صارا أسيراً للصوص وللنصارى فإن بادرتموه تداركوه وإلا يسبق السيف البدارا ولكنه مع الأسف سبق السيف العذل، فجاء المستعمرون فأخذوا على الناس أزمة الأمر، دون أن تقام دولة إسلامية في هذا البلد مع أنه كان مهيئاً لذلك، فقامت فيه عدة محاولات بعد المرابطين كمحاولة الزوايا المشهورة بمحاولة ناصر الدين، لكن المستعمر كان لها بالمرصاد فأفشلها وأسقطها، وأيضاً من أسباب سقوطها عدم تثقيف الناس بها، وابتعادهم عن فهم معنى الدولة مما جعلها لا تعتمد على بناء تستطيع به الصمود والاستمرار، بل فهمها الناس فهماً خرافياً، فهموا الدولة كلها والتنظيم الذي قام والجهاد الذي أسس فهماً خرافياً، وحتى الذين كتبوا عن تاريخه لم يخل أكثرهم من هذا الفهم الخرافي.

ثم بعد هذا -عندما جاء المستعمر- وجد أهل هذه البلاد أنفسهم مضطرين للتعامل مع هذه المستعمر، حين فرض عليهم نفسه بالقوة، فلم يفهموا الدولة والنظام إلا عن طريق المستعمر، والمستعمر إنما كان يحكمهم بالحديد والنار، ولكنه مع ذلك كان ألطف وأرفق من كثير من الأحكام التي تعاقبت بعده، فهو على الأقل لم يتدخل في شئون الأفراد ولا في شئون الدين المختصة، وكان يرجع في كثير من الأمور إلى الفقهاء، وقد نصب بعضهم قضاة بين الناس حين تراضى الناس عليهم، بخلاف كثير من الأحكام الخالفة للاستعمار.

وهذا الحال أيضاً نجده في البلدان الإسلامية الأخرى، فلا فرق، فحالها واحد، لكن الأمة بكاملها تشعر بوجوب وضرورة إقامة دولة للإسلام تتميز بالميزات التي ذكرناها وبما سواها، وتتخلى عن هذه الصفات الذميمة المشوهة التي تجمع أنواع التشويه، ولا تتصف بصفة من صفات الاستقامة والعدل.

وهي تعلم أن طريقة ذلك لا تتم إلا بالإعداد الكامل وحشد كل القوى وتهيئتها، فلو أنها دعيت لأن تستلم بلداً من البلدان، وأن تقيم فيه دولة الإسلام، فإنه ينبغي أن تعلم أن ذلك لا يمكن أن يتم على هذا الوجه؛ لأن دولة الإسلام لا تقام حتى يعد لها كثير من الإعداد، وحتى يُهيأ لها حكام وولاة، وحتى يهيأ لها اقتصاديون وسياسيون واجتماعيون، كل مرتبط بالإسلام ومنطلق منه في ثقافته ووعيه، ومتشبع بالحضارة الإسلامية، ومتشبع بأصول الدولة الإسلامية التي قامت، ومنفصل عن تراث زمان الفوضى والتسيب، وعن تراث الاستعمار المقيت البغيض، فما لم يتم هذا لا يمكن أن تقام الدولة الإسلامية التي أوجب الله علينا إقامتها.

أقول قولي هذا، وأستقبل الآن بعض أسئلتكم.