للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور فريدة وشخصيات فذة في العصور المتأخرة]

هناك عدد من الذين سعوا في التمكين لدين الله سبحانه وتعالى، حتى من المتأخرين وفي العصور المتأخرة، وكانت لديهم هذه الهمم التي تمنعهم من النوم والراحة، وتقتضي منهم التضحية والبذل، فهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان قد خرج وهو شاب في طلب العلم إلى مكة، وكان معه أبوه الذي كان قاضياً يأكل الرشوة، فكان ولده ينكر عليه ذلك، فلما خرج إلى مكة حاجاً مع أبيه تخلف عنه في طلب العلم، ثم انتقل من مكة إلى المدينة، ثم من المدينة إلى البصرة، حتى جمع كثيراً من علم زمانه، ثم خرج إلى بلاده فسعى في تغيير المنكر، فلم يجتمع حوله إلا فتية صغار ليس لهم أي مكانة في المجتمع، لكنه أراد أن يكاثر بهم أهل الباطل، فوقف في وجهه في البداية سلاطين بلده، فأخرجوه من العيينة في وقت الظهيرة وشدة الحر حافياً راجلاً، يحمل شرابه على كتفه ليس معه أحد، فأتى الدرعية فنزل في المسجد وقت صلاة الظهر، فلما رآه أهلها رأوا شخصاً غريباً عنهم، فتقدم ودعا إلى الله سبحانه وتعالى، وأرشد إلى طريق الحق، فأول من اجتمع إليه والي الدرعية، فاستجاب لدعوته، فقال: ابدأ بنفسك فغير ما أنت فيه من الحرام، واترك الضريبة والإتاوة التي تأخذها على الناس، ثم بعد ذلك يمكن الله لك في الأرض، ويستعملك لنصرة دينه، فإن الله لا ينتصر بالفجار، فاستجاب له الرجل، حتى بنى دولة عظيمة خرجت منها قوافل الجهاد والدعوة في كل مكان.

ومثل ذلك ما حدثني به أحد الذين كانوا يترددون على حسن البنا، فإنه عندما خرج شاباً من دار أهله في القاهرة كان فقيراً لا يملك شيئاً، فلما أتى القاهرة شغل بالتردد بين حلق العلم في الأزهر وغيره، وكان يصحب الشيوخ إذا انتهت دروسهم إلى منازلهم، يسألهم ويستعير كتبهم، فيقرؤها ويردها، ويتفحص أحوال الأمة، واستطاع أن يحصل على ملكة يعرف بها حال الشيوخ، فيعرف من يستفاد منه في علم معين ولا يستفاد منه في غيره، ومن لديه أخطاء في العلم الفلاني ومن لديه أخطاء في الجانب الفلاني، وهكذا ثم احتاج إلى ما ينفق به على نفسه، وكان صاحب تعفف وزهد.

قال: فذهبت إلى صاحب بقالة، فسألته أن أعمل عنده ساعتين من النهار في وقت الظهيرة، في الوقت الذي ليس فيه دراسة رسمية ولا حلقات في المساء، فالدراسة صباحية والحلقات العلمية في المساء، فأعطاه ذلك دراهم قليلة مقابل عمل ساعتين يومياً من كل يوم، فكان يعمل في البقالة في وقت الظهيرة، ويأخذ تلك الدراهم وينفق بها على نفسه وعلى من معه من طلاب العلم، حتى أحرز ما أحرزه، فذهب إلى الإسماعيلية فأقام دعوته في البداية بخمسة أشخاص فقط، ومع ذلك عندما رجع إلى القاهرة، وانتشرت دعوته بين الناس، حدثني أحد الذين كانوا معه قال: ما كان ينام إلا لماماً، يقول: كنت آتيه في آخر الليل فإذا هو مضطجع على فراشه بعد أن أكمل قيام الليل يلصق طوابع البريد على ظروف جريدته التي كان يوزعها، وقد كان آنذاك يدير جريدتين فيكتب عناوين المشتركين، ويلصق الطوابع البريدية على الظروف في وقت نومه، فسألته فقلت: رحمك الله! أليس هذا الوقت وقت نوم؟ فقال: إني لأستحي من نفسي أن يأتيني شباب صغار لا يقال عن أحد منهم مرشد، فإذا هم من الصباح إلى مثل هذا الوقت وهم يعملون في خدمة دين الله، فأنا أستحي أن ترفع إليّ الأعناق ويشار إليّ بالبنان وأنا لا أفعل مثلما يفعلون.

وكذلك عز الدين القسام رحمه الله الذي كان في فلسطين وقت مجيء اليهود بعمليتهم الماكرة، عندما أتوا بالتدريج، فكانت إرسالياتهم في البداية مجرد رهبان يتعبدون في بيت المقدس وفي الكنائس المحيطة به، ثم بعد ذلك أصبحوا يشترون البيوت الخربة ويسكنونها، ثم أصبحوا بعد ذلك يأتون باليتامى فيربونهم في تلك الأرض، ثم بعد ذلك أصبحوا يأتون بالتجار الذين في ظاهر الأمر يعمرون الأرض ويرغب الناس في مجاورتهم، ثم أتوا بعد بمستوطنين، وما زالوا يسحبون على فلسطين حتى احتلوها، وحالهم فيها هو الحال المعروف لديكم الآن، فهم أهل مكر وخديعة أتوا بهذا التدريج، وقد شهد ذلك عز الدين القسام من بدايته، فرأى أن اليهود في أول إتيانهم كانوا فقط عباداً رهباناً منعزلين إلى العبادة، ثم أصبحوا بعد ذلك يشترون البيوت الخربة، ثم يربون اليتامى من اليهود، ثم بعد جاء تجارهم، ثم بدأ مستوطنوهم يأتون بأهليهم، فعرف أن القضية مسلسل لا نهاية له، فتجرد للجهاد في سبيل الله لإخراج اليهود من أرض فلسطين، وكان شاباً في بداية أمره، ليس له أي قوة لا من الناحية السياسية ولا من الناحية المادية، والخلافة العثمانية آنذاك في أوجه انشغالها وضعفها، لكنه مع ذلك وجد أعواناً من شباب المسلمين الذين كانوا يكتمون مساعدته عن آبائهم وأمهاتهم.

يحدثني أحدهم -رحمة الله عليه- وهو الشيخ أحمد فرج عقيلان وكان من كتائب القسام في بداية نشأته، يقول: كنت شاباً فكان القسام يجمعنا في آخر الليل، فنختفي عن آبائنا وأمهاتنا للتدريب والتكوين، فكنا نبدأ التدريب دائماً بالأذكار ثم بقيام الليل ثم بقراءة حزب من القرآن، ثم بعد ذلك بالتدريب العسكري ثم نختم بالدعاء، فأمسكت بي أمي ذات ليلة، فلما ضاق وقت الموعد كادت تضيق عليّ الأرض بما رحبت، فلما رأت أمي ما أنا فيه سألتني: إلى أين تتجه؟ فصارحتها ولم أجد بداً من ذلك، فيقول: فخرجت أمي في أثري، فلما رأت ما نحن فيه تأثرت به تأثراً بالغاً، فجاءت من الغد تحمل حليها، فقالت: خذ هذا وسلمه للشيخ عز الدين يعينه على الجهاد في سبيل الله، ومن ذلك الوقت بدأت مشاركة النساء في الجهاد في فلسطين.

إن التضحية تبدأ في البداية صغيرة ثم تكبر، عندما يتقبلها الله تفتح لها أبواب السماء فتأتي بالخير الكثير، لكن لا بد في ذلك من الهمم والنماذج التي يقتدى بها، ويحتذى بأثرها، فهذا علال الفاسي رحمه الله يقول: أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب ولي نظر عال ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب ولا راق لي نوم وإن نمت ساعة فإني على جمر الغضا أتقلب إن أصحاب الهمم العالية هكذا يعيشون، وهم الذين يستطيعون تحمل المسئوليات والقيام بشئون أمتهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله المضحين في سبيله، وأن يرزقنا الشهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، وأن يعزنا بدينه وأن يعز دينه بنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.