للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الجهل]

كذلك من أسباب الجرائم: الجهل؛ فإنه سبب لمعصية الله، وما عصي الله إلا عن جهل: إما عن جهل به، وإما عن جهل بشرعه، لم يعص الله قط إلا عن جهل: إما أن يكون الجهل بالله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:٦٧]، أو أن يكون الجهل بشرع الله، فكثير من الناس يمارسون أعمالاً يتقربون بها إلى الله ويظنونها من أزكى قرباتهم، ومن أهم ما يعولون عليه في آخرتهم، وهي من أعظم ذنوبهم عند الله سبحانه وتعالى، ومن أخطر ما سيجدون في ميزان سيئاتهم وأثقله؛ والسبب: جهلهم بما شرع الله سبحانه وتعالى.

إن الجهل مقتض للوقوع في هذه الجرائم، ولهذا فمن هذا الاسم اشتقت الجاهلية، فهي من الجهل، والجهل جهلان: جهل هو ضد العلم، وجهل ضد الحلم، والجاهلية مشتقة من الثاني على الراجح، ففيها الجهل الذي هو ضد الحلم؛ لما ينتشر فيها من الطيش والخفة.

ولذلك كان أهلها يغضبون لأتفه الأسباب وأهونها، وإذا غضبوا تصرفوا تصرفاً يندمون عليه فيما بعد ندامة الكسعي حين كسر قوسه وعض أصبعه فقطعها، فهكذا أهل الجاهلية.

إن هذه الجرائم التي تنتشر إذا بحثنا عن عدها سنجدها ذات كثرة طائلة، وسنجد الأيام حبالى بها، فكل يوم تظهر فيه جريمة وتنتشر، ولا يفتح الإنسان مذياعاً ولا يقرأ في جريدة ولا يرى وسيلة من وسائل المعرفة والعلم إلا واطلع فيها على كثير من الجرائم الكثيرة التي لم تخطر على باله؛ بل إن كثيراً من الدول اليوم تعلن عجزها أمام بعض الجرائم، فلا تستطيع مكافحتها بالكلية.

فهذه الولايات المتحدة الأمريكية التي تزعم بكبريائها وعنجهيتها أنها قائدة العالم، بل يسميها الناس اليوم بشرطي العالم الذي يدافع الجرائم ويحمي الناس منها، استسلمت أمام الأحداث والقصَّر وطلاب المدارس، ولم تعد قادرة على الوقوف في وجه جرائمهم! فالصبيان الذين يدرسون في الإعدادية، والمراهقون الذين يدرسون في الثانوية يقترفون جرائم بشعة، يأتي أحدهم برشاشه فيقتل أباه وأمه وكل من في البيت من الأحياء، ثم ينتحر بعد ذلك، أو يأتي بقنبلة معه بين دفاتره وكتبه إلى المدرسة، فيفجرها في القاعة فيهلك جميع الطلاب ويهلك هو نتيجة ذلك.

إن هذا النوع من الجرائم أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رغم كل كبريائها عجزها عن مكافحته، فضلاً عن الدويلات الأخرى الضعيفة.

فالإجرام فيها يتجاوز هذه الحدود، بل إن كثيراً من الذين ينبغي أن يكونوا مكافحين للإجرام هم الذين يمارسونه بأنفسهم، كما قال الشاعر أحمد مطر: لأن من يسرقها يملك مبنى المحكمة ويملك القضاة والحجابا فكل هؤلاء الذين يقترفون كثيراً من الجرائم هم الذين يشكى إليهم، وهم الذين ترفع إليهم القضايا، أو يقترفها الناس تقوياً بهم، فأقاربهم وحاشيتهم مجرمون ويقترفون ما يحلو لهم أن يقترفوا ويجرموا، لكن إذا جاءت الملفات إلى مكان التحقيق أو العدالة اختفت وسرقت ولم تبق لها باقية، إن هذا النوع إذا تفشى في أرض فهو منذر بالخطر والدمار الشامل.

كان أحد الدعاة في زماننا هذا بين يدي أحد الرؤساء، فكلمه هذا الرئيس بكلام لا يليق، وهو شيخ كبير السن، فقال له: سأشكوك! قال: إلى من تشكوني وأنا رئيس الدولة؟ فقال: أشكوك إلى ديان السموات والأرض! فرعب هذا الرئيس رعباً شديداً وقال: اسحب هذه الشكوى! ونزل عن كرسيه متواضعاً للشيخ يريد أن يقبل يده؛ ليسحب هذه الشكوى.

فالذين ترفع إليهم الشكايات اليوم من أهل الأرض كثير منهم من الذين يساعدون في انتشار الإجرام، إن لم يكونوا من المقترفين له بالمباشرة.