للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المبالغة في جمع الدنيا لا يوصل إلى السعادة]

إن الذي حمل الناس على الإيغال والمبالغة في جمع هذه الدنيا هو أنهم يطلبون السعادة بها، والواقع أنهم يعلمون أنها لا تدوم على حال وأنها عرض يزال، ومن هنا فما يطرأ فيها من التغيرات سيصيبهم بالغموم والهموم فتزول السعادة لديهم.

وأنا أعرف أحد التجار الكبار أغمي عليه ذات يوم فنقل من مكتبه إلى المستشفى فلما حضر الأطباء أجروا له كل التحليلات اللازمة فلم يجدوا فيه أي مرض، فاكتشف أحد الأطباء أن الذي أصابه هو الجوع، قال: صاحبنا قتله الجوع والعطش، فبحثوا عن سبب ذلك فإذا هو منذ أيام يراقب مؤشر أسعار العملات، فلم يجد وقتاً لشرب ولا لأكل، يأتيه الخادم بكأس الشاي أو بالشرب فيضعه بين يديه وهو مشغول لا يتناوله والهواتف على أذنيه، ومتابع مؤشر العملات بين يديه، فيأتي العامل ويأخذ الكأس ويضع جديداً مكانه، وهكذا حتى يذهب الوقت دون أن يتناول أكلاً ولا شرباً! فقد أصبح خادماً لهذه الدنيا وباذلاً وقته ونفسه لخدمة الدنيا بدل أن كانت تخدمه، فلم يستفد منها شربة ماء حتى أهلكه الجوع والعطش! وأعرف آخر من التجار في هذه البلاد يحدثني عن نفسه فيقول: أنا وفلان من أغنى الناس في هذا المكان، ومع ذلك حرم علينا كل ما في هذه الدنيا من الشهوات، فحرم علينا كل ما فيه حلاوة وكل ما فيه دسم، وكل ما فيه ملح، فلا نتغذى إلا بالعيش والحليب الذي ليس فيه دسم! فكثير من الناس لا يميزون بين جعل الدنيا تحت أيديهم وبين تسخيرها لهم، كثير من الناس يتمنى أن يجعل تحت يديه الملايين أو المليارات لكن لا يعلم أن جعلها تحت يديه لا يقتضي انتفاعه منها، فكم من إنسان جعلت تحت يديه فلم ينتفع منها أصلاً، ولم تسد له أية حاجة، فهذه هي قيمة الدنيا الحقيقية.