للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صلة المقاطع من الأقارب]

ولا يقطع هذه الصلة أن يكون ذو الرحم كاشحاً، أي: حاسداً مقاطعاً، بل ذلك مما يزيد الأجر، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل من يقطعه)، فالواصل هو الذي يصل من يقطعه من أرحامه، وليس الواصل المكافئ الذي إذا أحسن إليه ذو رحمه أحسن إليه في المقابل، فهذا مكافئ فقط وليس واصلاً.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتاه فقال: (إن لي أقارب أحسن إليهم فيسيئون إليّ، فقال: إن كنت صادقاً فيما تقول فإن الله تعالى سيورثك دارهم)، والمقصود بذلك أن ذا الرحم الكاشح إذا أساء إلى رحمه فإن صلته تقتضي استمرار نسله، وطول عمره، وقطيعتهم للرحم تقتضي قرب آجالهم، وانتقاص ذريتهم، فلذلك سيرثهم هو، قال الزبيري وهو من مشاهير النسابين من قريش: قد جربنا ذلك في أنساب قريش، فما من بيت كان أهله يصلون الرحم إلا استمرت ذريتهم، وطالت أعمارهم، وما من بيت اشتهر أهله بقطيعة الرحم وعدم الصلة، إلا قصرت أعمارهم وانتفت ذرياتهم.

ومن القصص العجيبة في هذا الباب أن رجلاً من بني هاشم خرج مع رجل من بني جمح في عير له أجيراً عليه وعسيفاً، فلما كان في طريق الشام مر به قريب له، فسأله حبلاً فأعطاه إياه، وكان الحبل لصاحب العير، فسأله صاحب العير عن الحبل فقال: أعطيته قريباً لي! فضربه بعصاً على رأسه ففت بها دماغه، فتركه مسجاً بثوب على حافة الطريق وهو يجود بنفسه، فمر به ركب من أهل مكة، فقال: إذا أتيتم الحرم فاسألوا عن أبي طالب، فقولوا له: إن أخاك قد قتله فلان بعصاه في فضل حبل، فلما أبلغوه ذلك غضب أبو طالب وبنو هاشم لهذا الأمر، وقال أبو طالب فيه شعره المشهور الذي يقول فيه: أفي فضل حبل لا أبا لك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا فلما رجع إليه سأله عن ذلك فأنكر، فتحاكموا إلى حكيم، فلم يرض أبو طالب إلا بالقسامة، وهي: أن يحلف له خمسون منهم خمسين يميناً عند الكعبة ما قتلوه، فأتى منهم خمسون ليحلفوا، فجاءت امرأة من بني هاشم وهي أميمة أخت أبي طالب، فافتدت ولدها طليباً بخمس أبعرة، فقالت: إن هذا منابه من الدية، فأنا أعطيك إياها فلا تحلفه، فلم يحلفه وحلف الآخرون، فلم تمض سنة حتى مات أولئك جميعاً، وورثوا بالقعدد، ولم ينج منهم إلا طليب وحده الذي لم يحلف.

إن هذه الصلة من ناحية النسب كما ذكرنا تكون في هذين المقامين: في المقام المؤكد الذي هو الرحم الوارث، وفي المقام الذي دونه، وهو الرحم الذي يعرف الإنسان النسب بينه وبينه.