للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسئولية العلماء]

من شرط النفع بهذا العلم أن يدرك الإنسان مسئولية العلماء في هذه الأمة؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وهم الذين يحملون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قامت عليهم الحجة بما تعلموه، وهم الذين امتلأت صدورهم بهذا الوحي، فلم يكن الله ليجعلهم بدار هوان، فعليهم أن يكونوا مثلاً حسناً في التضحية والبذل في سبيل الله، وأن يقدموا ما لم يقدمه سواهم، وأن يكونوا أسوة وقدوة صالحة للناس، فإذا لم يفعلوا ذلك فقد ضيعوا ما حملوه، وفرطوا في هذه الأمانة التي تلقوها، ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تعرف منزلتهم العلمية بتضحياتهم في سبيل الله، فقد ثبت أن يوم اليمامة أسرع فيه القتل في القراء، والمقصود بالقراء العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان من شهداء اليمامة خمسمائة ممن يحملون القرآن، وهؤلاء كانوا هم أول من يستقبل السلاح، وهم الصفوف الأمامية؛ لأن معهم ما يشجعهم ويتقدم بهم، فلذلك عرفوا بهذا، وكان المنافقون لا يكرهون أحداً مثل ما يكرهون هؤلاء القراء، ومن أجل ذلك قالوا فيهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء فأنزل الله فيهم (المقشقشة) سورة التوبة، ومازال يقول: (ومنهم ومنهم) حتى فضح كل أمورهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.

فمن أجل هذا كان على من يتعلم العلم ومن يعلمه أن يكون مثلاً حسناً، وأن يقدم التضحية اللائقة به لنصرة الله تعالى، وأن يلتزم بأخلاق هذا العلم وآدابه، فإنه لو كان فظاً غليظاً أو كان جافياً أو كان مخالفاً للسنن فقد رد وقطع الطريق على كثير من السالكين، فيكون من قطاع الطرق من حيث لا يشعر؛ لأنه قطع الطريق على أقوام كانوا سيلتزمون هذا المنهج ويسلكون هذا الطريق، وهو الذي فتنهم وردهم عن ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منكم منفرين)، وحذر غاية التحذير من ذلك، ولذلك قال الصحابي: (فما رأيته غضب غضباً في موعظة كما غضب يومئذٍ)، فحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من التنفير غاية التحذير، وما غضب في موعظة مثلما غضب في موعظته هذه التي يحذر فيها من تنفير الناس عن اتباع سنته، وعن هذا العلم وعن عبادة الله عز وجل.

كذلك فإن على من يسلك هذا الطريق أن يعلم أن عليه للناس حقاً، وأن يبحث عن واقعهم وأمورهم، وأن يهتم بتلك الجوانب التي يعيشونها، فإن الجوانب التي يعيشها الناس أولى بالبحث والتنقيب من الجوانب التي لم يعد لها ذكرُ في حياة الناس، وقد كان مالك رحمه الله إذا سُئل عن مسألة يسأل: هل وقعت أم لم تقع؟ فإن قيل: وقعت؛ استعان بالله عليها حتى يجيب فيها، وإن قيل: لم تقع قال: إن لها رجالاً سيشهدونها وهم أولى بها.

وكان يقولُ: لست من الأرائكيين.

والأرائكيون هم الذين يقولون: أرأيت لو كان كذا ماذا يكون الجواب؟! أي: أنهم هم الذين يتوقعون المشكلات التي لم تقع، فهؤلاء حذر منهم لأنهم يتكلفون، والتكلف منهي عنه، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:٨٦].

وكذلك على هؤلاء الذين يشتغلون بهذا الجانب المهم من دين الله تعالى أن يعلموا أنهم شهود على الأمة، وعليهم بذلك أن يحافظوا على عدالتهم؛ لأن الشاهد إذا لم يكن عدلاً فهو مردود الشهادة، وقد أخرج أبو عمر في مقدمة (التمهيد)، والخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، فمن ليس عدلاً فليس من حمال هذا العلم، ولا يمكن أن يوثق به على هذه الأمانة الجسيمة، فلا يكون من الموقعين عن رب العالمين، ولا من خلفاء الأنبياء ولا ورثتهم.