للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حفظ كتابه العزيز]

المظهر الأول منها: حفظ الكتاب الذي أنزله، فالكتب السابقة، إنما كان يستحفظها أهلها، فيحفظها الأحبار والرهبان، وهذا الكتاب تولى الله حفظه بنفسه؛ ولذلك قال الله في ذكر التوراة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:٤٤].

وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]، وقال فيه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢]، وقال فيه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:١٩٣ - ١٩٦]، فتولى الله حفظه بنفسه، فهذا القرآن المحفوظ في الصدور، المتلو بالألسنة، المكتوب في المصاحف، مادام موجوداً على الأرض، فذلك معناه استمرار هذا الدين وحفظ له، ولا يمكن أن يعتدى على هذا الدين، ولا أن ينقص منه شيء، مادام هذا القرآن قائماً في الأرض حجةً على أهلها، وقد تحدى الله به الثقلين -الإنس والجن- أن يأتوا بسورةٍ من مثله، وقد حاول ذلك بعض البلهاء فما وصلوا إلى نتيجة، جاء مسيلمةُ الكذاب وهو من فصحاء بني حنيفة، فحاول أن يحاكي سورة من القرآن، فما جاء إلا بالمضحكات التي يعجب منها العقلاء، سمع سورة الفيل {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:١ - ٥] وهي غاية في البلاغة والإيجاز، تضمنت تقريراً كاملاً عن قصةٍ عظيمةٍ من قصص التاريخ، وذكرت ما فيها من العبر والآيات، وبينت آثارها، وما ترتب عليها، فجاء هو فسلطه الله على نفسه، فلم يأتِ إلا بقوله: [الفيل وما الفيل، وما أدراك ما الفيل، ذنبه قصير، وخرطومه طويل!!] وهذا كلام سمج، يضحك منه العقلاء، وكذلك عندما سمع قول الله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:١ - ٤]، على ما في هذه السورة من البلاغة العظيمة، ومن أعظمها: ما فيها من البديع {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:١] فالفاء في (ذرواً) مفتوحة {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:٢] والفاء في (وقراً) مكسورةٌ {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات:٣] والفاء في (يسراً) مضمومة، وجاءت هذه على ترتيب الحركات الفتحةُ، ثم الكسرةُ، ثم الضمة، بالإضافة إلى ما فيها من الإعجاز اللفظي، وحاول مسيلمة الكذاب أن يأتي بشيء يقابل هذا فقال: [والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً!!] فلم يأت بشيء كذلك يستحق أن يسمع.

والمتأخرون من أعداء الله تعالى ساءهم وجود هذا القرآن واستمراره، فعندما اجتمعت الحكومة الإنجليزية في سالف الزمان؛ لتنفيذ مؤامرةٍ على المسلمين، قام فيهم خطيبهم، وحمل نسخةً من المصحف الشريف، وقال: ما دام هذا الكتاب موجوداً بأيدي المسلمين، فلن تصلوا منهم إلى مرادكم؛ فلذلك يبقى هذا الكتاب حافظاً لهذا الدين؛ لأن المستقبل له، فالمسلم إذا وجد ضيقاً، وتكالبت عليه الأمم يجد الفرج في كتاب الله، وإذا وجد مرضاً وألماً يجد الفرج في كتاب الله {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:٨٢]، إذا جهل حكماً أو جهل خُلقاً فيجد الجواب في كتاب الله، فيه حل لكل المشكلات؛ ولذلك لا يمكن أن يحس بالغربة من رفيقهُ القرآن، ولا يمكن أن يحس بالعراء من يعيش في ظلال القرآن، فلا بد أن تستذكر هذه الأمة، وأن تستحضر هذه المعونة التي مجدها الله بها، ببقاء كتاب الله بين أظهرها، وهو تسليةٌ عن كل ما يحصل، فكلما جاءت ضائقة، أو احتج المشركون بشبهة؛ ففي القرآن ما يفرج ذلك، اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء:١٠٦ - ١٠٩]، وكذلك اقرءوا قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:٣٢ - ٣٣] إذا اشتكى الناس هزيمة من الهزائم، لجئوا إلى القرآن، فوجدوا فيه قصص السابقين وما نالوا من الأذى والضيق، فعلموا حينها أن حالهم سيتسع، إذا قرءوا في وقت ضيق وشدة قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:١١٠ - ١١١]، عرفوا أن ما هم فيه إنما هو حلقة من حلقات سلسلة التاريخ، وسنةٌ من امتحانات الله التي يمتحن بها العباد، وأنه كلما جاء العسر فمعه يسران {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:٥ - ٦]، وإذا جاء الضيق وصبروا، فإن النصر مع الصبر، وإذا جاء الكرب فإن الفرج مع الكرب، وبهذا يتقوى المسلم قوةً ليس لها حدود.

أحد العلماء ضايقه الناس فسجن ونُفي، وصودرت ممتلكاته، فأتاه شخص وهو في السجن، فنظر إلى حاله فإذا هو في غاية السرور والسعادة، فقال: يا أبا العباس ما يسرك؟! قال: ماذا يفعل أعدائي بي؟ قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، جنتي في صدري، هذا القرآن بين يدي، فلا يمكن أن يُضايق من يجد المتسع في كتاب الله.