للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هذه الأمة خاتمة الأمم وأكثرها]

من مظاهر استمرار هذا الدين: أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة خاتمةً للأمم، وهي أكثر أمم الأنبياء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه عرضت عليه الأمم، فكان يرى النبي وحده، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، حتى رأى سواداً كثيراً فظن أنهم أمته، فقيل: هذا موسى وأمته، ولكن انظر إلى الأفق قال: فنظرت فإذا سوادٌ عظيمٌ قد سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك في صحيح البخاري أنه قال: (ما من نبيٍ بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر) أي: أوتي معجزةً لو رآها البشر جميعاً لآمنوا، (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)؛ وقال: (لا يبقى بيت شجرٍ ولا مدر إلا دخله هذا الدين)، والشجر أي: البيوت المبنية من الأكواخ والأشجار ونحو ذلك، والمدر: الطوب، أي: لا يبقى بيتٌ من الشجر والطوب إلا دخله هذا الدين، وكذلك أخبر أنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا واقع الآن فالأذان يرفع في جميع أصقاع الأرض، لا توجد مدينةٌ في أنحاء العالم إلا وفيها من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وسيزداد ذلك ويعم، فهذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، والله تعالى بين هذا الوعد في عدد من آيات كتابه، فقد قال تعالى في سياق قصة موسى عليه السلام: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:١٢٨]، وقال تعالى في ذكر زبور داود: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:١٠٥ - ١٠٦]، وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:٣٩ - ٤١].

وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٥٥]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٧].

وقد بين الله سنته الماضية في أحلك الظروف وأقساها على المسلمين، عندما كان يوم الأحزاب، وحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في المدينة، وجاءتهم قريش وأحلافها من جهة الغرب، وغطفان وأحلافها من جهة الشمال، واليهود ومن معهم من جهة الشرق، فأحاطوا المدينة من كل جانب، وأصبح الأعراب الذين حول المدينة يتربصون بهم الدوائر، يريدون الاعتداء على سارحتها، أو على زرعها، ويظنون أن من فيها سيتخطفون في الأرض، ولن تبقى لهم باقية، واشتد الحال بالمسلمين حتى وصل إلى ما بين الله في محكم التنزيل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:٩ - ١١]، ثم جاء فرج الله عز وجل، وهذا الفرج لم يكن متوقعاً إلا لدى أهل الإيمان والتقوى؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:٢٥ - ٢٧]، وكل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى وتقديره، وفي ذلك الوقت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (أوتيت مفاتيح الأرض، وأوتيت كنوز كسرى وقيصر) وقال: (لتفتحن كنوز كسرى وقيصر، فتنفق في سبيل الله) فكان المنافقون يقولون: يعدكم محمدٌ أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحدٌ منكم أن يخرج لقضاء حاجته، وفي ذلك الوقت كان المسلمون لا يتجاوزن ألفاً وخمسمائة مقاتل، وهم محاصرون في المدينة، ليس لهم مدد خارجي، وليس لهم أي سلاح ضارب، فلم تمضِ ست سنوات حتى دخلت الجزيرة العربية كلها في دين الله، وخرجت الجيوش الإسلامية فاتحةً إلى العراق والشام، وتوالت الفتوح، وتضاعفت الرقعة، وفتحت كنوز كسرى وقيصر وأنفقت في سبيل الله.

إن هذه السرعة في ذلك الزمان الأول مؤذنة بسرعة النصر في هذا الزمان، فزماننا هذا أسرع، وما يحصل فيه مما ليس متوقعاً أكثر، فقبل سنوات قليلة من كان يتوقع منكم ما حصل اليوم من التطورات في هذا الزمان؟! فمثلاً: التلفون المحمول! من كان يتوقع أننا سنستخدم مثل هذه التقنية عن طريق هذا الجهاز؟! قبل سنواتٍ يسيرة لم يكن أحد يحلم بمثل هذا النوع، لكن ذلك يقع بين الكاف والنون، إذا أراده الله تحقق، ومن هنا لا يُستغرب أن يأتي نصر الله من غير أن نفكر في الوسائل، ومن غير أن نتعب أنفسنا في التخطيط، فسيأتي النصر لا محالة، لكن له شروط لا بد من تحققها، وهذه الشروط يسهل جداً على الأمة الإسلامية أن تحققها، فلا يطلب تحقيقها في جميع الأفراد، بل يطلب تحقيقها في الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وهذه الشروط بينها الله بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:٤١]، وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:٥٥] إذاً: هذه هي الشروط، وهي ميسورةٌ سهلة، وتحقيقها ليس شاقاً، وإذا تحققت لابد أن يأتي النصر الموعود.