للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جهود المجيدري وقوة حفظه]

ومنهم كذلك بعد هذا العلامة محمد بن الفاضل بن الفقيه موسى الذي اشتهر بـ المجيدري، وقد خرج من هذه البلاد بعد أن استوعب علمها إلى المغرب وعمره خمس عشرة سنة، واستقر بالمغرب فلم يجد كفؤاً له ولا مناظراً فيه، وكان السلطان يجلسه بين يديه ويجمع له العلماء ليستخرجوا مكنون علمه، وكان في بداية شبابه صموتاً لا يتكلم إلا إذا سئل، وكان السلطان لا يعرف من العلم ما يستطيع به استخراج ما لدى هذا الشيخ الشاب، فكان يأتي بالعلماء فيقول: مالكم مهمة إلا سؤاله في كل علم من العلوم حتى تستخرجوا الكنوز التي لديه.

وقد أقام بالمغرب زماناً ثم خرج إلى المشرق حاجاً فمر بمصر، وعندما أراد الخروج من المغرب أرسل رسالته المشهورة إلى أمه وأعطاها تاجر كتب، فأعطاه سلهاماً وعبداً وتسعين درهماً وزربيةً -وهي البساط المعروف-، وكتب له ورقة صغيرة كتب فيها: سلام بزيادة لامِ ماءٍ إلى لامِه، وإحدى خبر كأن في قوله: ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين.

فقرأ التاجر الورقة فلم يفهم شيئاً مما فيها، فناولها العجوز فقالت: هات الزربية والسلهام والعبد والتسعين.

فقال: من أين أخذتِ هذا؟ فقالت: لامُ ماءٍ هاءٌ؛ لأنه يجمع على (أمواه) ويصغر على (مويه)، وإذا أضيفت الهاء إلى لام سلام كانت سلهاماً.

وأما قوله: وإحدى خبر كأن في قوله: ترديت إلى آخر كلامه فتقول: راجعت ما أحفظ من الشعر فلم أجد بيتاً بدئ بقوله: (ترديت) وفيه كأن إلا قول غيلان: ترديت من أعلام نور كأنها زرابي وانهلت عليك الرواعد وواحدة الزرابي زربية.

وأما إياك نعبد وإياك نستعين فتقول: لم أفهمها، فعرفت أنها مصحفة، فانتزعت نقاطها فقرأتها فإذا هي: أتاك بعبد وأتاك بتسعين.

وقد اشتهر أنه حين وفد على مصر جمع له محمد علي باشا عشرة من كبار علمائها، فلما أرادوا مناظرته سألهم التعريف، فعرفه كل واحد بنفسه وعد لنفسه عشرة آباء، وعد هو عشرة آباء لنفسه، فلما كان من الغد واجتمعوا لديه سلم على كل واحد منهم باسمه ونسبه إلى حيث انتهى، ولم يتذكروا هم اسمه هو، لكن كان مما يعينه على ذلك صعوبة النطق باسمه، أما هو فقد حفظ أسماءهم وأعادها عليهم.

فلذلك قال لهم الملك: هذا الذي حفظ أسماءكم وتذكر كل ما قلتموه وأنتم لم تتذكروا اسمه لا يمكن أن تناظروه.

فاستسلموا له، فسأله عن جائزته فقال: أن تخرج عني كل الزوار والقراء في دار الكتب المصرية لمدة أسبوع كامل.

فأخرج عنه القراء لمدة أسبوع كامل فحفظ ما لم يكن يحفظه من مخطوطات دار الكتب المصرية خلال أسبوع.

وقد امتحنوه في ذلك فكانوا يأخذون أسفل كتاب من الرف -وكانت الرفوف إذ ذاك غير منظمة- فيمسكونه عليه فيقرؤه عليهم من حفظه.