للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جهود العلامة يحظيه بن عبد الودود]

كذلك من هؤلاء المضحين العلامة يحظيه بن عبد الودود رحمه الله، وقد بذل الكثير في سبيل هذا العلم، فقد كان خرج إلى آل محمد سالم للدراسة، وكان آل محمد سالم إذ ذاك يأتيهم الطلاب والغرباء فيعلمونهم ويدفعون إليهم زكاة أموالهم، فيخرج الطالب من محضرتهم غنياً عالماً، فكان يحظيه من الذين أتوا للدراسة من الفقراء، فرأوا فيه الجد والتشمير، قال: وكان في مجلس محمد وجوه الناس وأبناء الأسر الكريمة يتنافسون في السبق في التدريس، وكان ذات يوم وهم في (تجريت)، فأراد الشيخ السفر وقد سافر أهله في آخر الليل وانتقلوا من مكانهم إلى مكان ناء، فتنافس الناس في السبق في الدراسة تنافساً عظيماً، قال: فأتيت الشيخ فقلت له: إذا بدأت اليوم بالتدريس آخذ عنك طلاب النحو جميعاً، فقال: (أبين ها الله)، وهي كلمة عامية معناها: وددت ذلك.

قال: فبدأ بي ولم يدرس أحداً قبلي.

فكان هذا مزية إذ ذاك عظيمة، مثلما يقول الأقدمون: كان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك.

فكذلك كان البدء بالتدريس في أيام محمد بن محمد سالم مزية عظيمة.

فلما درسه دَرْسَهُ من الفقه انتقل إليه طلاب النحو، فجعل يدرسهم حتى أكمل الدرس في وقت الظهيرة وليس معه ماء، فخرج يشتد عدواً في أثر الذين ركبوا في الصباح الإبل، وجاءت الرياح على آثارهم فطمست الأثر، ولم يزل يشتد في عدوه حتى لقي بعد العصر إبلاً تساق لـ (بني دليم)، فظن أنها من إبل المشايخ، فخرج فيها فتعب تعباً شديداً، فلما كان من الليل أناخوا، فاضطجع في جانب هذه الإبل وقد دميت أظفاره وتفطرت رجلاه من المشي في الحجارة وليس له نعلان، ومن الجوع والعطش.

فيقول عن نفسه: فنظرت فإذا أنا بتلك الحال، فقلت بالعامية قولاً معناه أن كل ما كان من المصائب في سبيل الحصول على هذا العلم لن يصرفه ولن يصده عن وجهته، وهكذا شأن كل صبور جلد إذا جاءت المصائب والنكبات تذكر ما وراءها فصمد وصبر.

فاستمر في طريقه أياماً وليالي صبر فيها على الجوع والعطش والألم والسهر حتى وصل إلى الشيخ، قال: فلقيت الشيخ يشرح الدرس، فلما سمعت صوته من بعيد وهو يشرح ذهب عني كل ما كان بي من العناء.

وهكذا شأن الطلاب الأوفياء، فإن أحدهم إذا سمع شرح الشيخ من بعيد زال عنه كل عناء وتعب، فهذا الحسن بن زين القناني رحمه الله كان من طلاب العلامة عبد الودود بن عبد الله الألفغي، وكان عبد الودود شديداً جداً على طلابه؛ لأنه يريد تكوين الرجال، كما كان هو يقول: أنا أريد تعليم الرجال ولا أريد تعليم الدجاج.

ولذلك يقول: لقد مزقت قلبي بضعف جفونها كما مزقت عمداً كتابيا وذلك من تشدده على طلابه، وكان الحسن بن زين صاحب ذكاء وجد، فكان عبد الودود يحبه ويقدمه على غيره من الطلاب، قال الحسن رحمه الله: سافر عبد الودود في سفر له فخرجت أنا إلى شيخه بُلاّ الشقروي، فأتيته من الليل فإذا صوته من بعيد -وهو يشرح قول ابن مالك رحمه الله-: وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وحذفها حتمٌ نصب قال فسمعته يقول: وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وحذفها حتم نصب وهذا هو النطق الفصيح بالفاء، وكان الناس ينسبونه لـ (بني حسن)، وهو نطق الفاء الفصيح، قال: فسمعته يقول هذا البيت فزال عني كل ما كان معي من النصب والتعب، فتركت بقرتي لم أربط ولدها.

وليس له إذ ذاك مذاق ولا غذاء إلا من لبن بقرته، فلم ينتبه لها عندما سمع صوت الشيخ وأقبل على طلب العلم وجلس بمجلس الشيخ للطلب.