للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام على قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين)]

قال الله سبحانه وتعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:١٢]، وقال قبلها: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:٩ - ١٠].

فلاحظوا أنه ذكر أربعة أنواع من الخلق في العالم السفلي، تقابلها أربعة أنواع من الخلق في العالم العلوي؛ وذلك للتوازن بين هذين السقفين: السقف الوطائي، والسقف الغطائي، فجعل بينهما توازناً بديعاً عجيباً، فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:٩]، فهذا خلق لقشرة الأرض وما فيها، ثم قال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت:١٠] وهذه هي الجبال، وفيها من الفوائد للبشرية، والأشياء العجيبة جداً، فهي تمنع الأرض أن تميد بكم، وهي التي يستدل بها الناس ويهتدون بها، وهي التي تخزن المياه وتصفيها، وهي التي تحتوي على المعادن النفيسة في قلوبها، وهي تمنع من العدو، ويستتر بها عن أعين الحيوانات المفترسة، فكل هذا من فوائد هذه الجبال.

ثم قال بعد هذا: {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت:١٠]، وهذه البركة التي في الأرض هي التي أخرجت ثمراتها، وأنبتت أشجارها، وجعلت فيها المعادن النفيسة والثمار الطيبة.

{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت:١٠]، وهذا النوع الرابع من أنواع الخلق في العالم السفلي، وهو أنه قدر فيها أقواتها، فهيأ في كل أرض من الأقوات ما يحتاج إليه سكانها، فالصحاري التي يقل سكانها تقل الثمرات فيها والزروع، والأراضي المكتظة بالسكان تكثر فيها الأنهار، وتكثر فيها الأشجار، وتكثر فيها الزروع، وهذا تدبير العزيز العليم الذي يعلم الأماكن التي تصلح لاستقرار البشرية، ويجلب إليها النفوس التي تناسب تلك الأرض، فبعض البيئات شديدة الحرارة يجلب لها أقواماً يصلحون لهذه البيئة، وبعض البيئات شديدة البرودة يجلب لها أقواماً آخرين يصلحون لتلك البيئة، وبين هذا وهذا أماكن متنوعة، يجلب لكل بيئة ما يصلح لها من أنواع البشر، ويكون ذلك مؤثراً حتى في أخلاقهم وطباعهم وألوانهم ولغاتهم.

ومن أجل هذا قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:٢٢]، فربط بين اختلاف الألسنة والألوان، وبين خلق السماوات والأرض؛ مما يدل على أن اختلاف الألسنة والألوان يتأثر بالبيئات وبنمط العيش، وبطريقة السكن، فمن أجل هذا ترون تغير الألوان والألسنة في الأجيال بسبب تغير السكن والبيئة والمعاش، وقد يكون ذلك بالتغير الكامل كما يحصل في الانتقال من اللغات، فأصل اللغات لغات محصورة، قال ابن عباس: هي خمس وسبعون لغة؛ ولكنها تتنوع إلى ما لا يعلمه إلا الله، فشبه الجزيرة الهندية وحدها فيها أربعمائة وثمانون لغة يتكلم بها الهنود في منطقة محصورة في دولة واحدة! وكذلك في البلدان الأوروبية -التي هي من أضيق البلدان وأكثرها اكتظاظاً بالناس- عدد كبير من اللغات واللهجات المتباينة، ففي فرنسا وحدها: ثلاث لهجات من هذه اللغة، وفي إنجلترا أربع لهجات متباينة وهكذا، وهذا من التطور الحضاري الذي يقتضي تغير اللغات بالكلية، وعليه تجد الفرق بين العبرية والعربية واضحاً جداً، وكذلك الفرق بين الفارسية والتركية مثلاً، وتأثر بعض اللغات ببعض واضح؛ لاختلاط البيئات، كتأثر اللغة الأردية والتركية باللغة العربية، وتأثر اللغة الفارسية باللغة العربية أيضاً وهكذا.

وهذه اللغات لها حركات بطيئة عجيبة تسير مع الزمن، فلو أن أية لغة من اللغات أخذ أهلها قاموساً قديماً كان قبل ألف سنة متداولاً، وأرادوا التفاهم بما فيه من المفردات فيما بينهم، لوجدوا في ذلك أمراً شاقاً عسراً جداً، ومن هنا فإن الأشعار قبل ألف سنة لا يفهما طلاب المدارس اليوم في بلادنا؛ لأن اللغة تطورت بتطور المجازات وتنوع الدلالات، وبذلك لا تفهم تلك الأشعار.

وأركد اللغات اللغة العربية؛ فإن أولاد العرب إلى اليوم إذا سمع أحدهم قول امرئ القيس: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) فإنه يفهم معنى هذا الشطر بسليقته، وإن لم يفهم معنى التركيب بكامله، لكنه يفهم الكلمات، وهذا البيت قد قيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة سنة على الأقل.

ولركود اللغة العربية اختارها الله سبحانه وتعالى لكتابه القرآن، الذي تقوم به الحجة على من بلغ، فلو أن القرآن نزل بلغة غير اللغة العربية لم يعد اليوم صالحاً للفهم، ولأصبح محتاجاً إلى كثير من الشروح في كل زمان؛ لكن نظراً لركود هذه اللغة ولثباتها وندرة التغير في مدلولاتها، اختيرت أن تكون لغة هذا القرآن.