للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مفاتيح الخير ومفاتيح الشر من الناس]

من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومنهم -نسأل الله السلامة والعافية- مغاليق للخير مفاتيح للشر، فالذين هم مفاتيح الخير: يفتحون أبواباً لأنواع الأرزاق والانتفاعات، ينتفع بها المؤمن والكافر والحيوان البهيمي، وغير ذلك.

ومنهم مغاليق للشر: يغلقون أبواباً فيها مضرة تهلك الحرث والنسل، وتقضي على أنواع الكائنات الحية، سواء كانت من الحيوان أو من النبات.

ومنهم عكس ذلك: مغاليق للخير، يجدون باباً واسعاً يعيش منه الناس فيفعلون ذنباً يزول به ذلك الباب، وكم من قوم كانت أمورهم مستقيمة، وكانت حياتهم طيبة، فجاء أصحاب الذنوب فأذنبوا وأسرفوا؛ فأغلق الله باب ذلك الخير الذي كانوا يعيشون منه، وأنتم تقرءون في سورة سبأ قصة أصحاب سبأ الذين فتح الله لهم أنواع الأرزاق في هذه الأرض، ويسر لهم سبل الانتفاع بها، وهوّن عليهم الانتقال، ويسر لهم السبل، ولكنهم بغوا وطغوا؛ فبدل الله ذلك، وأهلكهم على يد أضعف خلق الله، على يد فأرة، فأهلكهم الله بذلك، ومزقهم كل ممزق، وجعلهم خبراً بعد عين.

وكذلك الحال في الأمم التي طغت في البلدان كلها، فعاد الذين بسط الله لهم أنواع الأرزاق، وزادهم بسطة في أجسامهم على قوم نوح، وأطال أعمارهم، ومع ذلك بغوا وطغوا، فأرسل الله عليهم الريح ثمانية أيام حسوماً، فقضت على الأخضر واليابس في بلادهم، وما زالت بلادهم إلى اليوم لا يستطيع أحد السير فيها، وإذا سارت فيها سيارة وأرادت المنقلب في نفس الساعة يضيع أثرها، ولا تهتدي إلى المكان الذي خرجت منه، وبلادهم اليوم بلاد الأحقاف، وهي معروفة بالربع الخالي في جزيرة العرب، وما زالت الريح مستمرة فيها على أثر تلك الريح التي سخرها الله ثمانية أيام حسوماً.

وكذلك ثمود الذين يسر الله لهم أنواع الأرزاق، وجعل لهم الجبال بيوتاً، بغوا وطغوا فأرسل الله عليهم الصيحة التي أهلكتهم، وشقت شغاف قلوبهم، فلم يستطع أحد منهم أن يصمد أمامها، فهلكوا جميعاً في لحظة واحدة.

وكذلك قوم لوط ومن سواهم من الأمم الذين كانوا يعيشون في نقطة التوازن في العالم بمكة -شرفها الله وحرسها- كانوا إذا بغوا في الحرم يسلط الله عليهم ما يهلكهم ويبيدهم، فعندما يسر الله تعالى لإبراهيم مكان البيت وبوأه له وأمره أن ينزل عنده أمته وولده، وأراه مكانه؛ أخرج الله بهذا الوادي الموحش الذي لا زرع فيه -بواد غير ذي زرع- هذا الماء الطيب، الذي لم يزل إلى يومنا هذا يسقي الحجيج، وهو ماء زمزم، فساكن هاجر في ذلك المكان العمالقة، ولكنهم حين بغوا فيه سلط الله عليهم جُرهم، فقتلوهم قتل عاد وإرم وأخرجوهم منه، ثم حين بغى جُرهم أهلكهم الله أيضاً، وسلط عليهم الذين جاءوا من سد مأرب كخزاعة وغيرهم، ثم لما بغى خزاعة بالحرم سلط الله عليهم قصياً فأخرجهم، واستمر ذلك في زمان الجاهلية كله؛ ولهذا تقول امرأة من قريش لولدها: أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحرير يمشي إليها حافياً بفنائها ألفا بعير والله آمن طيرها والعصم تأمن في ثبير وكان الحكم في الجاهلية والردع عن طريق القوة الباطنية، فلما جاء الإسلام ظهرت القوة الحسية الواقعية، فرفع ذلك العقاب، كما قال ابن عباس: إن العقاب الذي كان يأتي إلى الجاهلية في جاهليتهم كان عقاباً باطنياً، فلما جاء العقاب الظاهري بشرع الله عز وجل رفع الله العقاب الباطني، فكان الذئب في الجاهلية يطرد الأرنب حتى تدخل الحرم فيرجع ويتركها! واليوم أصبح الناس يتجرءون على معاصي الله في حرمه ويقتلون، ويقومون بأنواع الجرائم، فلا يرون بعض تلك الآيات التي كان يراها أهل الجاهلية؛ وذلك حينما ردع الله بهذا الدين، وبما شرع في كتابه المبين من أنواع الزواجر التي تكفي أهل الإيمان، وتردهم عن الطغيان.