للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البدء بنقاط الاتفاق قبل نقاط الاختلاف]

الأدب الأول: البدء بنقاط الاتفاق قبل نقاط الاختلاف، فإذا حصرنا نقاط الاتفاق هانت نقاط الخلاف وذابت، وسهل تجاوزها أو الاتفاق فيها على أمر، وإنما تشتد شقة الخلاف وتكبر الفجوة بسبب البدء بنقاط الاختلاف أولاً، وتجاهل نقاط الاتفاق التي قد تكون أكبر.

من أشهر الخلافات بين المسلمين اليوم -وبالأخص بين أهل السنة-: الخلاف في بعض المسائل العقدية، وأكثرها اجتهادية لم تحسم بالنص، إذا لم يُبدأ بمسائل الاتفاق وذُهب إلى مسائل الخلاف اتسعت شقة هذا الخلاف، لكن إذا ذهبنا إلى مسائل الاتفاق وجدنا أن أركان الإيمان ستة، وأن ثلاثة منها ليس فيها خلاف أصلي، وهي فيما يتعلق بالإيمان بالملائكة، وما يتعلق بالإيمان بالرسل، وما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر؛ هذه مسائل اتفاق.

أما الثلاثة الأركان الأخرى؛ فأولاً: الإيمان بالله، وهو ثلاثة أقسام: اثنان منها -تقريبًا- ليس فيها اختلاف بين أهل السنة: الإيمان بربوبية الله للكون، والإيمان بألوهيته، فلا يخالف في ربوبيته إلا من كان خارجًا عن الإسلام، ولا يخالف في ألوهيته إلا بعض المنحرفين في جانب العبادة، فانحصر الخلاف في القسم الثالث، وهو الخلاف في أسمائه وصفاته.

وأيضًا هذا قسمان الأسماء والصفات، فالأسماء لا اختلاف فيها بين أهل السنة، ويبقى الخلاف في الصفات.

والصفات أيضًا ثلاثة أقسام: قسم منها صفات الأفعال، وهذه لا خلاف في جمهورها، كالإحياء والإماتة والخلق والرزق ونحو ذلك.

ثم الصفات الأخرى صفات المعاني؛ وهذه -أيضًا- لا خلاف فيها، كالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام تقريبًا، وسيأتينا الخلاف في الكلام بمعنى التكلم.

وكذلك السلوب من الصفات: كالقدم والبقاء والغنى والمخالفة للحوادث والوحدانية؛ فهذه لا اختلاف فيها.

فانحصر الخلاف في الشق الثالث، وهذا يشمل بعض الصفات الذاتية، كالوجه واليدين والقدم والساق والأصابع والعين والشخص، وبعض صفات الأفعال اليسيرة جدًا كالاستواء والتكلم والنزول.

فهذا عدد من الصفات يسير جدًا، والذين اختلفوا فيه اتفقوا على ثبوت النصوص الواردة فيه، وأنها حق، وأن الله أعلم بنفسه، لكن اختلفوا فقط: هل تفسر أو ما تفسر؟ فالذين قالوا بعدم تفسيرها أصلاً نجوا من كثير من التفصيلات، والذي قالوا بتفسيرها اختلفوا، فمنهم من قال: نفسرها بظاهرها مع تنزيهه عن التشبيه بالمخلوقين، ومنهم من قال: نؤولها بما يدركه العقل بأعمال القياس، كما نعمل القياس في آيات الأحكام وآيات الصفات، وكل من عند ربنا.

أما الإيمان بالكتب المنزلة، فلا خلاف فيها إجمالاً، ولا خلاف في أن القرآن كلام الله، الخلاف فقط هو فيما يتعلق بالتكلم اللفظي، وهذا راجع إلى صفة من صفات الله، فقد اختلف: هل القرآن صفة الله أم لا؟ الذين يقولون: هو صفة الله مقصودهم: أن الله تكلم به، لكن هل يوصف هذا الكلام نفسه بكونه صفة بعد أن تكلم الله به؟ هذا محل خلاف: فالقرآن فيه صفة الله التي لا اختلاف فيها: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:١٤ - ١٦]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:١ - ٤]، وهذا ليس فيه خلاف أنه صفة الله، لكن فيه أيضًا صفة عدو الله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:١١ - ١٥].

{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:٨ - ١٣]، فهذه من صفات عدو الله، وكونه يحفظ في الصدور، ويكتب في المصاحف، ويأتي يوم القيامة يجادل على صاحبه تتقدمه البقرة وسورة آل عمران كالغمامتين يقتضي انفصاله عن الذات، والصفة لا تنفصل عن الذات، فهذا سبب الخلاف، وهو سبب معقول، مع اتفاقهم على أن الكلام النفسي -الذي يعبر عنه بعضهم بنوع الكلام- أو جنس الكلام: صفة ملازمة لذاته، والاختلاف فقط في اللفظ الذي يسميه بعضهم آحاد الكلام، فتنحصر شقة الخلاف في مسألة ضيقة.

أما الإيمان بالقدر فأكثر مسائله لا خلاف فيها، فلا خلاف في أن الأمور كلها بإذن الله، وأنها مكتوبة عنده، وأنها لا يقع منها شيء إلا بعد علمه به وكتابته، وهذا عند أهل السنة، واختلافهم فقط هو في أفعال العباد، هل هي من فعل الله؟ بمعنى هل العباد يكسبونها، ولهم إرادة وقدرة لا توجدها، أو أنها من فعل العباد، وهي من خلق الله؟ لم يختلفوا أنها من خلق الله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦]، إنما الخلاف فقط في نسبتها بعد ذلك، فمن المعلوم قطعًا أنها تنسب للمخلوق، وأنه يثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، ولكن وجه تعلق المخلوق بها: هل هو الفعل المطلق -أي: أنه هو الذي فعلها- وهذا هو الصحيح، أو أنها كسب أي: أن له كسب وإرادة لا تتعلقان بإيجادها، فتحصل الأعمال عند الإرادة والقدرة لا بها، وهذا الذي يسمى بنظرية الكسب.

فالخلاف إذًا: محصور، وشقته محصورة، هذه هي مسائل الخلاف، في كبريات مسائل العقيدة، وما سواها كله تفصيلات وجزئيات، وهذا بين أهل السنة فقط، أما ما سوى ذلك فكله ابتداع، وخروج عن هذا المنهج العقدي الصحيح.

فالبدء بنقاط الاتفاق من الآداب المهمة في مراعاة الخلاف.