للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[براءة الدين من التكلف]

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتكلفين، لذلك لا تجدون في أي حديث ولا في أيه آية مناظرة على الطريقة المنطقية، أو على الطريقة الفلسفية، مع أي حبر من أحبار أهل الكتاب، أو عالم من علماء ذلك الزمان، أو فيلسوف من فلاسفتهم، بل عندما جاء نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه فيهم الكتاب المحكم البين من سورة آل عمران حين قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٦٤]، وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المباهلة التي أمره الله بها.

وكذلك في مجادلته للمشركين إنما كان يقرأ عليهم القرآن، فعندما أتاه عتبة بن ربيعة وهو ابن عمه، وكان شيخاً كبيراً محترماً في قريش، وأراد أن يجادله وذكر له حجج المشركين التي أوحتها إليهم الشياطين {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:١٢١]، استمع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل أدب حتى أكمل ما معه من الحجج، فقال له: اسمع أبا الوليد، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:١ - ٤]، حتى قرأ عليه صدر هذه السورة، فهذه مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يقنع الناس، فما يظنه الناس سبباً للهداية أو سبباً للإقناع من النظر الفلسفي والمنطقي وتركيب الأشكال والجدل وغير ذلك، فإن أدى إلى إقناع شخص فليكن ذلك الشخص واحداً في المليون، وقد أسلم الملايين المملينة في أنحاء الأرض مشارقها ومغاربها من غير مجادلات فلسفية ولا تركيب أشكال منطقية.

وقرئ عليهم هذا القرآن، فمن هداه الله منهم رأى أنه عين الصواب والحق واستسلم له، ولذلك فإن رجلاً من أحبار اليهود من أهل اليمن كان في ديره يتعبد ذات ليلة، فمر راكب من حوله يقرأ سورة النساء، فاستمع إليه الراهب حتى بلغ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء:٤٧]، فلما سمع هذه الآية نزل مسرعاً من الدير وأقبل إلى المدينة مؤمناً وهو يلمس وجهه ويخاف أن يطمس على قفاه قبل أن يقبل الله إسلامه! وهكذا فإن أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير حين قدما المدينة وذهبا إلى بني عبد الأشهل وجاءهم أسيد بن حضير يريد طردهما من المدينة، وقد أرسله بذلك سعد بن معاذ، أقبلا إليه فرحبا به وأدنيا مجلسه، ثم قالا: هل لك في أن نعرض عليك بعض ما جئنا به من هذا الكتاب الذي أنزل على صاحبنا -أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإن كان حقاً عندك قبلته، وإلا خرجنا وتركنا لك مكانك، فقال: قد أنصفتما، فجلس إليهما فقرآ عليه القرآن فبادر إلى الإيمان ولم يخالف في كلمة واحدة مما قرئ عليه.

ومثل هذا ما حصل لـ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عندما أرسل المشركون عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي بالهدايا، وهم يريدون إخراج المهاجرين من الحبشة، وأتيا التجار الكبار والملأ من أهل الحبشة فزينا لهم إخراج المهاجرين، وقالوا: هؤلاء يزعمون أن عيسى عبد مملوك -وأولئك يعبدون عيسى من دون الله! ويزعمونه ابناً لله- فشق ذلك على المهاجرين، فلما دعاهم الملك للمناظرة، وجمع حوله الملأ من قومه قام عمرو بن العاص فتكلم فقال: إن هؤلاء يزعمون أن عيسى عبد مملوك، فتقدم جعفر بن أبي طالب فبين لهم عقيدة المسلمين في عيسى وقرأ الآيات التي أنزلها الله في ذلك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩]، وبين أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فأخذ النجاشي عوداً فقال: والذي يحلف به النجاشي لم يزد عيسى على هذا شيئاً قدر هذا العود، فاقتنع النجاشي بذلك وأسلم وحسن إسلامه، ورجع وفد المشركين خائناً.