للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحقوق المترتبة على الأخوة]

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على هذا التآخي في الله من الحقوق فقال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله ولا يكذبه، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاثاً-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على السلم حرام دمه وماله وعرضه).

وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بعض الحقوق التي يغفل عنها كثير من الناس فقال: (المسلم، أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، ولا يكذبه) هذه الحقوق كلها منطلقة من هذا المبدأ العقدي، وهو قوامها وبه التئامها، ولا يمكن أن تتراجع هذه الحقوق إلا بنقص في المبدأ الذي هو الأصل.

فإذا انتقص الإيمان حصلت القطيعة بين الناس، ولهذا قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:٢٢ - ٢٣]، وأولى الأرحام بالصلة رحم الدين؛ لأنه الذي يقطع ما سواه وهو مستمر في الدنيا، مستمر يوم القيامة، فلا يقطعه في الدنيا الظلم والبغي؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:٩ - ١٠].

وهو مستمر كذلك يوم القيامة؛ لقول الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧]، فهذا الإخاء الديني مستمر يوم القيامة في جنات النعيم، لا يقطعه أي سبب من أسباب الدنيا، ولا ينقطع يوم القيامة عندما تنقطع الأنساب، ولذلك قال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:١٠١]، ومع هذا قال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:٨٥ - ٨٦].

فالمؤمنون يحشرون وفدا، ومن المعلوم أن الوفد كلمته على لسان رجل واحد، وأنه يتعاون في سيره ويشترك في رواحله وزاده، ومهمته واحدة.

أما الذين كفروا فإنهم يساقون إلى النار ورداً، نسأل الله السلامة والعافية.

والورد ليس بينه أي تآلف ولا تآخ ولا تراحم ولا ترابط، بل هو يساق سوقاً كما تساق غرائب الإبل.

إن هذا الإخاء له حقوق كثيرة يلزم الوفاء بها والحفاظ عليها، ومن أعظمها أن يتذكر المسلمون أنهم أمة واحدة، وذلك يقتضي منهم التناصر، وأن لا يخذل بعضهم بعضا، والتآخي مهما كانت الظروف.

وقد أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوما، قلنا يا رسول الله! أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه أو تحجزه عن ظلمه، فإن ذلك نصره).

إن هذه الأمة تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعة القلوب متآلفة فيما بينها، ولذلك حققت المعجزات وفتحت أصقاع البلاد، واستمرت على النهج النبوي زماناً طويلا، ثم بعد ذلك بدأ الخلال، لكن بقي قوامها وأصل ما يجمعها، فاستمرت على ذلك النهج المجتمع زماناً طويلاً مع ما حصل من الخلل في بعض الجوانب الأخرى، إلى أن وصلت إلى الزمان الذي نحن فيه، وهو زمان القطيعة المطلقة، حيث أصبح كل صقع من المسلمين يظن أهله أنهم أمة مستقلة، وأن لهم ذمة خاصة، وأنهم يمكن أن يراعوا مصالحهم مع أعدائهم ويعلنوا الحرب والسلم دون الرجوع إلى بقية الأمة! وهذا مناف لثوابت الشرع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والمسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)، وقال: (وذمة المسلمين واحدة)، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

إن الجسد ما دام متماسكاً لابد أن يحافظ على هذه الخاصية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أصيب أي إصبع من أصابعه بنكبة أو شوكة تألم لها القلب، وأحس بها الرأس والجوارح كلها.

لكن عندما تتقطع الآراب والأوصال فذلك مؤذن بالزوال؛ لأنه مقتض لموت الجسد، فإذا قطع الرأس وقطعت الأعضاء كلها فذلك مؤذن بموت الجسد كله، فلا يقع الإحساس بما يأتي بعد ذلك.