للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النظر إلى المدعوين بعين الرحمة]

أخرج عبد الرزاق في المصنف أن رجلاً جاء إلى عطاء بن أبي رباح فقال: إنك يجتمع في مجلسك أنواع الناس -يقصد فرق الناس من الخوارج والشيعة وغيرهم-، وإني أكلمهم فيشتد عليهم، ولا أراك تفعل ذلك.

فقال: إني سمعت قول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:٨٣]، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني.

فكان فهم عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى من هذه الآية أن يكون الخطاب في البداهة وفي أول الأمر بالتي هي أحسن ثم إذا احتيج بعد ذلك إلى المراحل الأخرى في التغيير كان الإنسان مستعداً لها، لكن ينبغي أن تكون بالتي هي أحسن، وبكل هدوء، وأن يعلم الإنسان أن التجهم والغلظة دليل على قسوة القلب، ولهذا فإن مالك رحمه الله أخرج في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوَ قلوبكم، إن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).

وهذا الحديث خرج من مشكاة النبوة كما قال ابن القيم رحمه الله، وهو يأتي بأساليب دعوية رائعة، فيقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم؛ لأن كثرة الكلام مدعاة لقسوة القلب إذا لم تكن بالذكر، أما كثرة الذكر على اللسان فإنها مدعاة للين القلب واستقامة الجوارح، (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد) واكرهوها وغيروها، ولكن في الواقع أنتم عباد، وأنتم معهم في هذه السفينة التي ضرب بها الرسول صلى الله عليه وسلم المثل، والذنوب تخرق السفينة، وأنتم تريدون سد هذا الخرق، وتريدون علاج ما أفسده هؤلاء، وأنتم تستحضرون قول موسى عليه السلام فيما حكى الله عنه في كتابه عندما أخذته الرجفة قال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:١٥٥ - ١٥٦]، فهذا كلام العارفين بالله، كلام أنبياء الله الذين يعرفون الأدب مع الله وكيف يخاطبونه، لم تأخذهم القسوة ولا الشدة في مثل هذا الموقف، بل تبرؤوا في الإثم من أهل الإثم وردوه عليهم، ومع ذلك لم يجعلوا أنفسهم أرباباً، وهذا ما حكاه الله عن عيسى عليه السلام أيضاً في قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨]، وقد ثبت في حديث عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بهذه الآية) يصلي ليلة كاملة لم يقرأ من القرآن بعد الفاتحة إلا هذه الآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨]، وهذا من واقع حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته الذي أورثنا إياه، وعلينا جميعاً أن يكون لدينا هذا الحرص، علينا أن نهتم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نهتم بهدايتها وصلاح أمورها، وأن نهيئ أنفسنا لمسئولياتنا تجاه أمتنا، وأن نكون بذلك عند حسن ظن الأمة.