للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمل للإسلام لا يكون إلا بقناعة وإرادة قوية]

المؤمن حين يسأل: كيف أعمل للإسلام؟ بعد قناعته بهذا الدين وإيمانه به وشهادته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإيمانه باليوم الآخر والبعث بعد الموت فإن عليه أن يوجه هذا السؤال إلى نفسه، وحينئذ سيرى أن الله لم يدعه في مظنة ولا مهلكة، بل أرسل إليه رسولاً خاتماً للرسل، وأتاه بشريعة واضحة، وبين له معالمها لأقواله وأفعاله وتقريراته، ولم يكلف إلا بما يطيق، ولن يسأل إلا عما قامت عليه الحجة فيه، وكل ما لم يبلغه فإنه لم تقم عليه الحجة به، فإنه لن يُسأل إلا عما كان معلوماً من الدين بالضرورة لا يعذر أحد بجهله.

لهذا فإن من انتمى إلى هذا الدين فأول واجب عليه أن يحقق انتماءه له، وأن يعلم أن هذا الانتماء قناعة، وأن القناعة أيا كانت مقتضية للعمل، فالذي يقتنع بأن عليه أن يكون عالماً ولكن لا يذهب إلى العلماء ولا إلى الكتب، وإنما يستقر في دويرة أهله، أو يذهب إلى الأسواق، أو إلى محلات بعيدة عن العلم لم يعمل من أجل قناعته، وبذلك لا تتحقق قناعته أبدا، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في السنة لـ ابن أبي عاصم - أنه قال: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم)، فلا يمكن أن تتحقق هذه الأمنية حينئذ، وكذلك الذي يقتنع بأن عليه أن يكون من التجار الكبار ومن الأغنياء المشار إليهم عليه أن يبكر بكور الطير إلى الأسواق، فيصفق فيها كما يصفق الناس، فإن نام في وقت الصبيحة واستقر في بيته ولم يعمل من أجل قناعته فإن قناعته لاغية، وإن من اقتنع بأنه قد جاء إلى هذه الدنيا لحكمة واضحة، وقامت عليه حجة بالغة، وأنه سيموت ويخرج من هذه الدنيا ويتركها وراء ظهره، وسيبعث من قبره، وسيوقف بين يدي الباري سبحانه وتعالى، ويسأل قبل ذلك في قبره فيقال: من ربك وما دينك وما كنت تقول في هذا الرجل عليه أن يحقق وأن يعمل من أجل قناعته هذه حتى تكون قناعة واقعية، فما أكثر المتمنين الذين يتمنون على الله الأماني، ويزعمون أنهم من الذين ستكون لهم الغرفات يوم القيامة، ما أكثر الذين لا يرضون إلا بالفردوس الأعلى من الجنة، ولا يرضون إلا بمجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكن حين ننظر إلى الذين يقدمون من أجل ذلك أعمالاً جساما ويخلصون في ذلك لله نجدهم قلة قليلة من هؤلاء.

فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن المشركين وعن اليهود أنهم يودون أن يعطوا يوم القيامة براءة من النار، وأن يؤتوا صحفا منشرة، وأن يدخلوا الفردوس الأعلى من الجنة، ولكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم هذه الأمنية وأخبر أنها كاذبة.

والمشكلة أن كثيرا من المؤمنين يسلكون طريق اليهود والمشركين في ذلك، فيتمنون على الله الأماني ولا يقدمون شيئا، تجد المؤمن الذي أنعم الله عليه بالإيمان، وتربى في بيت مؤمن بين أبوين مؤمنين، وتعلم من دين الله أو أمكنه أن يتعلم على الأقل، وأنعم الله عليه بتمام جوارحه وقوة بدنه وتمام عقله وتفكيره، وكان في مجتمع فيه من يقتدى به وفيه من يستفاد منه، وتجده يبلغ الثلاثين من عمره أو الأربعين لم تبق له حجة على الله، ولم يقدم شيئا يذكر لدين الله، تمضي هذه السنون هباءً منثورا، ويا ليتها كانت هباءً منثورا، بل تكون حجة على أصحابها، وهي حجة لله عليهم، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:٣٧].

فيا ليت هذه السنوات التي مضت تمضي بما فيها من خيرٍ وشر، وتذهب بكل ما فيها، ويكون الشخص كأنما ولد من جديد، لكن المشكلة أنها تنقضي أيامها وتبقى تبعاتها، ولذلك كان كثير من السلف يقولون في دعائهم: اللهم إنا نعوذ بك من ذنوبٍ ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها.

تنقطع اللذات وتبقى التبعات، ويمضي العمر على هذا والشخص يؤمل زيادةً في العمر {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠]، فحينئذٍ تنقطع الآمال، ويندم الشخص على ما فرط في جنب الله حين لا ينفع الندم.

فأنت -يا عبد الله! - في هذه الدنيا قد مكن لك فيها، وفتح لك كثير من المجالات، وأنعم الله عليك بكثير ٍمن النعم، وعلمت الخير أو أمكنك تعلمه، فلماذا لا تستفيد من كل هذه المجالات؟! إلى متى وأنت تغدو وتؤمل غيباً لا يتمناه إلا العاجزون؟! كثير من الذين يحبون نصرة الدين ويسعون لإعلاء كلمة الله يقولون نحن نرجو الوقت الذي ينزل فيه المسيح عيسى بن مريم فنجاهد معه، أو يخرج جيش المهدي ونجاهد معهم!! وما هذا الأمل الطويل الذي يوصلك بأزمانٍ قد لا تصلها أنت ولا ذريتك من بعدك؟! إنك لم تكلف بأن تنتظر هؤلاء، إنما كلفت بأن تنجي نفسك من عذاب الله، وأن تقدم شيئاً لدين الله، ولن تكلف إلا بما تطيقه وتستطيعه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:٧]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦].

إن العمل لهذا الدين ليس مثل الأعمال الدنيوية التي يمكن أن يقدم فيها الشخص منافع لبعض الناس أو يرفع عنهم أضراراً دون أن يستشيرهم؛ لأنه يعلم أنهم بحاجةٍ إلى هذه المنافع وفي خشية من هذه المضار، فالله سبحانه وتعالى يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، لا يمكن أن تقدم نفعاً لله تعالى ولا أن ترفع عنه ضررا، إنما تنفع نفسك أو تضرها (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).