للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منزلة الصبر بين صفات أهل الإيمان]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، تبرأت من حولي وقوتي واعتصمت بحول الله وقوته.

موضوع هذا الدرس: الصبر في الابتلاء والمحن.

إن الله سبحانه وتعالى سلط على المؤمنين بعض البلايا والمحن، وآتاهم معها جنداً عظيماً من جنوده، هو الصبر، وقواهم به عليها، وهذا الصبر مزية عظيمة ومنزلة رفيعة، فلذلك بين الله سبحانه وتعالى درجة أهله في كتابه فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٦] وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠].

وقد جعله الله بوتقة لكل الصفات المرضية والقيم الرفيعة، فبعدما ذكر صفات المؤمنين من عباد الرحمن الذين يستحقون رضوانه، قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:٧٥]، وكذلك في مجادلة أهل النار قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:١٠٩ - ١١١]، فجعل كل ما قاموا به داخلاً في بوتقة الصبر.

والصبر ذو منزلة عظيمة بين صفات المؤمنين، ولذلك يعده أهل السلوك مقاماً من مقامات اليقين، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن من جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، لأن اليقين به يقضى على الشبهات، والصبر به يقضى على الشهوات، ودليل هذا من القرآن قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤]، حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.

وقد رتب الله عليه الأجر العظيم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي به عند المصائب، فقد أرسلت إليه ابنته تدعوه لشهود ولدها، وهو يقعقع -أي: نفسه تقعقع في حال الموت- فأرسل إليها قال: فلتصبر ولتحتسب، فعزمت عليه أن يحضر فأتى صلى الله عليه وسلم ووضع الصبي في حجره حتى فاضت نفسه.

وكذلك: (أتى امرأة أخرى وهي عند قبر تبكي، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، فقيل لها: إنه رسول الله، فندمت وأتته في بيته فلم تلق عنده حاجباً ولا بواباً، فقالت: يا رسول الله إني تائبة ووالله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

فالصبر الذي يثاب عليه صاحبه هذا الثواب العظيم هو ما كان عند الصدمة الأولى، أي: عند أول إحساس الإنسان بالابتلاء، أما إذا انهار في البداية وجزع ثم عاوده الصبر بعد ذلك، فما من مصيبة تحل بالإنسان إلا سيسلوها وينساها مهما كان ذلك؛ ولهذا فعلى الإنسان أن يعلم أن الدنيا كلها زائلة، وأن كل ما فيها سيذهب، وإذا أعجب الإنسان أي شيء فيها فليعلم أنه بعد مدة يسيرة سيجده في القمامات، فكل ما يتنافس فيه الناس من متاع هذه الدنيا الفاني فلن تمضي فترة يسيرة إلا وتراه مرمياً في القمامة.

فعلى هذا على الإنسان إذا أصيب بشيء من أحوالها أن يعلم أنها زائلة، وأن كل ما فيها عرض سيال، وحال سريع الزوال، وبقاء الحال من المحال.