للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مكانة الصلاة في الدين]

الحمد لله أوجد الكائنات فأبدعها صنعاً، وأحكمها خلقاً، وهدى عباده النجدين، فأسعد فريقاً وفريقاً أشقى، أحمده سبحانه وأشكره، وأثني عليه بما هو أهله، لم يزل للشكر مستحقاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعبداً ورقاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله هو الأخشى لربه والأتقى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المقدمين فضلاً وسبقاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ومن نصر دين الله حقاً وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل فاتقوا الله رحمكم الله، وتقربوا إليه بطاعته، والإكثار من ذكره وشكره، وحسن عبادته، توددوا إليه بالتحدث بنعمه، والإحسان إلى خلقه، تعرفوا إليه في الرخاء يعرفكم في الشدة، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدىً، ومن خاف اليوم أمن غداً، والربح لمن باع الفاني بالباقي، والخسران لمن سدت مسامعه الشهوات، وآثر الحياة الدنيا.

أيها المسلمون: القارئون للتاريخ والناظرون في أحوال الأمم يرون أن هذا العصر هو أعنف عصور البشرية، وأغزرها دماً، وأشدها دماراً.

إن من المفارقات العجيبة والمقارنات اللافتة أن يكون ذلك في وقتٍ وصلت فيه الثقافة والعلوم والتعليم والمخترعات والمكتشفات إلى قوةٍ غير مسبوقة، فمن غير المنكور ما يعيشه العالم كله من تقدم مادي له منجزاتٌ خيرة، وآثار نافعة، في الاتصالات والمواصلات والآلات والتقنيات، والصحة والتعليم، وأسباب المعيشة في آثارٍ إيجابية مشهودة في حياة الناس، ولكن ومع كل هذا النفع المشهود يصبح هذا العصر أعظم العصور قسوة ووحشية، غريب وعجيب أن يكون التنوير سبيل التدمير! ولكن يزول العجب وترتفع الغرابة إذا استرجع المسلم قول الله عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:٧] غفلوا عن الآخرة فنسوا ربهم، وجهلوا حقيقة مهمتهم، شرعوا لأنفسهم واستبدوا في أحكامهم وعتوا عتواً كبيراً، لقد كدوا ذكاءهم وسخروا علومهم ووظفوا مخترعاتهم في أسلحة الدمار، والصراع على موارد الخيرات، والتنافس غير الشريف.

إن الذي يستحق التوقف والتأمل أن هذا الجهد وهذا التنافس والتصارع الذي يبذل على وجه هذه الأرض في هذه الميادين لو بذل أقل من نصفه في الأدب مع الله وتوقيره، وابتغاء مرضاته، لكسب الناس الدنيا والآخرة جميعاً، ولأظلهم الأمن الوارف، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن كثيراً منهم كذبوا وظلموا وآذوا وأفسدوا وأوقدوا حروباً، وأشعلوا صراعات، وأثاروا مشكلاتٍ اقتصادية وسياسية، واستضعفوا أمماً، واستنقصوا حقوقاً، فأُخذوا بما كانوا يكسبون، ولا يزالون تصيبهم بما صنعوا قوارع.

إن أهل الإسلام وهم في هذا الشهر المبارك ليعلنون أن باب الصلاح والإصلاح يكمن في صلاح القلوب، وارتباطها بعلام الغيوب، طريق الإصلاح والصلاح لا يكون ولن يكون إلا بالخضوع التام لله الواحد القهار؛ عبادةً، وتذللاً، وانقياداً، وتسليماً.

العبادة في الإسلام ذات مدلولٍ واسع، إيمانٌ صادق، وعمل صالح: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:٩٧].

{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣].

ثم بعد ذلك امتلاك الحياة، والأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله، وحسن التوكل عليه، وتسخير ذلك في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، وليكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة.

أيها الإخوة المسلمون: الإنسان ضعيف لا قوة له إلا حين يتصل بربه، الإنسان تواجهه قوى الشر، وتثقل عليه المقاومة بين دفع الشهوات، وإغراءات مطامع يثقل عليه مجاهدة الطغيان، وتطول به الجادة، وتبعد عليه الشقة، ليس له في هذه الأمواج العاتية، ولا مفزع من التيارات الجارفة، إلا الاعتصام بالله واللياذ بجنابه.

أيها المسلمون: إن مناسبة الزمان الشريف الذي يعيشه المسلمون هذه الأيام تستدعي الحديث عن أهم العبادات في الإسلام، وأعظمها اعتصاماً بالله سبحانه، تلكم هي العبادة التي يفزع إليها نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، وقرة عينه إذا ضاقت عليه المسالك.

الصلاة مورد النبع الذي لا يغيب، والكنز الذي يغري ويقني ويفيض، حين تستحكم الأمور، ويشتد هدير الحياة: {يا بلال! أقم الصلاة أرحنا بها}.

الصلاة: هي عمود الإسلام، وهي بإذن الله مفزع التائبين، وملجأ الخائفين، ونور المتعبدين، وبضاعة المتاجرين، تجلو صدأ القلوب بأنوارها، وتزيل حجب الغفلات بأبكارها، وتنير الوجوه بأسرارها وآثارها، ومن كان أقوى إيماناً كان أحسن صلاةً، وأقبل قنوتاً، وأعظم يقيناً.

جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: {الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر منها فليستكثر} أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.