للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كل أمة تقدر بقدر عظمائها]

الحمد لله أحصى كل شيءٍ عدداً، خلق الخلق ورفع بعضهم فوق بعضٍ درجات فكانوا طرائق قِدداً، أحمده سبحانه وأشكره، تكاثر إنعامه وإفضاله فلا نحصي له حداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله أكرم به عبداً، وأعظم به سيداً، صلى الله وسلم وبارك عليه، زكى أصلاً وشرف محتداً، وعلى آله نجوم الاهتداء، وأصحابه أئمة الاقتداء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاماً دائمين أبداً.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فالدنيا غرارة هلك فيها هالكون، فاجعل سفينة النجاة فيها -يا عبد الله- تقوى الله! وعدتك التوكل على الله، وزادك الإيمان والعمل الصالح، فإن نجوت فبرحمة الله، الدنيا قنطرة فاعبرها ولا تعمرها، واعلم أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وليس لك من دنياك إلا ما أصلحت به آخرتك، وأعظم الحسرات غداً أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيالها من عثرة لا تقال! وشر المصائب معاصي الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:٦٠].

أيها المسلمون: إن الأسباب التي تحط من أقدار الرجال، وتنتقص وقار العظماء لم تزل تتكاثر، وهي في هذه العصور المتأخرة أكثر تكاثراً، مع أن حاجة الأمم إلى هؤلاء الرجال أمس وألزم، وهؤلاء العظماء كانوا في خدمة أممهم أقدر وأعظم، فكثر التطاول على كل عظمةٍ إنسانية، وفشت بدعة الاستخفاف والزراية باسم العلم والعقلانية، والتجرد في مناهج يزعم أصحابها الموضوعية العلمية والتفكير الحر، يخوضون في هذه القضايا بالباطل بل بالتشهي واتباع مسالك أهل الأهواء، دون الاسترشاد أو الاعتبار بأقوال أهل العلم والتحقيق والصدق والتجرد، حتى أوشك التوقير لمن يستحق التوقير أن يعاب، وتكاثرت أسباب الحط من أقدار ذوي المنازل، والأمة لا يثبت لها حق إن هي لم تعرف حق رجالها، بل الإنسانية ليست بشيء إذا كان عظماء الرجال ليسو بشيء.

أيها المسلمون: إن تاريخ الأديان والعقائد تاريخ قيمٍ ومبادئ وليس بتاريخ وقائع وأحداث، ذلك أن الوقائع والأحداث على اختلاف الأعصار متشابهة في ظاهرها وظواهرها، ولكنها تختلف في القيم النفيسة التي تكمن وراءها، هذا التاريخ مليء بالعظات البالغات، والمواقف الرائعات، والأحداث العظام، والمواقف الجسام، سير عطرة، وتاريخ زكي تستضاء به مشاعل الإيمان، وتوقد به مجامر القلوب، ما كان حديثاً يفترى، ولا أساطير تردد، ذلك التاريخ الذي روى وحفظ أنباء أعظم ثلة ظهرت في تواريخ العقائد والديانات، تاريخٌ وحقائق تدون ما كان لأصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وأرضاهم أجمعين من حياة وبذل وفداء وإيمان وعبادة وزهد.

إن التاريخ لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم وانطوت نواياهم على غاياتٍ تناهت في العدالة والسمو ثم نذروا لها حياتهم على نسقٍ تناهى في الجسارة والشجاعة والتضحية والبذل كما شهد التاريخ في صحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أنجز هؤلاء الكرام ما أنجزوه في بضع سنين، أشادوا بكتاب الله وكلماته عالماً جديداً يهتز نبرة، ويتألق عظمة، ويتفوق اقتداراً، صبرٌ وشجاعة، وعلم ومثابرة، وبطولاتٌ تفيض رحمة بالناس وزهداً في الدنيا، وتبتلاً لله وخشوعاً بين يديه، استطاعوا في مثل سرعة الضوء -بإذن الله- أن يضيئوا الدنيا بحقيقة التوحيد ويطهروها من وثنية القرون، أي بذلٍ بذلوا؟ وأي حملٍ تحملوا؟! وأي فوزٍ أحرزوا؟

تحريرٌ -بإذن الله وقوته- من وثنية الضمير وضياع المصير، الظلام يتحول إلى نور، والفوضى تنقلب إلى نظام، والضعف يتبدل إلى قوة، والضياع يصير منعة، والمهانة تصبح عظمة، والجهل يضحى علماً ومعرفة، والعيلة تكون غنى، لقد ورثوا البشرية خير ميراثٍ وأعظم تراث.