للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من خصائص أهل السنة تبنيهم للتوحيد والدعوة إليه]

من خصائص هذا المنهج، أو من معالمه الكبرى كممارسة، أو كمَعْلَم بارز: قضية التوحيد، بمعنى: الحديث عن التوحيد، والدعوة إليه، والالتزام به.

وقضية التوحيد وضدها الشرك، تحتاج إلى وقفة حقيقية لأنها فعلاً ميزة، وهي -مع الأسف- محل تردد عند بعض الناس.

إن من المعلوم تميز هذه البلاد بخاصة -ولله الحمد- بتبنيها لقضية التوحيد والدعوة إليه، وبروز ذلك بروزاً بيناً مما دعا بعضَ الناس والمفكرين وبعض الذين لم يتبينوا المنهج ولم يميزوا، أو بعض المخالفين، لما رأى إصرارَنا على الحديث عن التوحيد والالتزام به والدعوة إليه وتعليمه وتربية الناس عليه ما كان من أمثال هؤلاء إلا أن قالوا: إن هذا المنهج كأنه يشير بأننا نَتَّهِم الناس في عقائدهم، وحقيقةً هذا يحتاج إلى وقفة كبيرة.

فالدعوة إلى التوحيد هي طريق القرآن، والدعوة إلى التوحيد ليست للمشركين فقط ومن قال: إنه لا يُدْعى إلى التوحيد، ولا يُذَكَّر بالتوحيد إلا المشركون فهذا غير صحيح، والقرآن كله حديث عن التوحيد وعن ضده، كما وصف ذلك ابن القيم رحمه الله.

فالله عزَّ وجلَّ حينما ذكر عباد الرحمن وذكر صفاتهم، ومعلوم أن عباد الرحمن مؤمنون، بل إنهم هم الصفوة الذين يُقتَدى بهم، قال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:٦٣ - ٦٧] هذه كلها صفات لا تلفت النظر من حيث أنها فعلاً صفات سلوكية، وصفات عبادات وتعبد، لكن قال بعدها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:٦٨] مع أن الله سبحانه وتعالى سماهم عباد الرحمن، ولا شك أن كلمة عباد الرحمن تعني: أنهم مستقيمون على الطريقة، لكن من صفاتهم: أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، مما يدل على أن قضية التوحيد قضية دقيقة.

وفي قوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:٣٦] العلماء رحمهم الله وقفوا عند هذه الآية وقفة عجيبة ودقيقة، فكلمة (شيئاً) نكرة وفي سياق النهي تفيد العموم، وقد ذكر العلماء التقدير المحذوف، فقالوا: إن التقدير: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء، فإذا حاولت أن تفهم هذا الفهم الدقيق من المعنى، لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، مهما قل، أي: أدنى تعلق بغير الله عزَّ وجلَّ، فهو صورة من صور الشرك المحذوف.

فالتقدير الأول: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء.

والتقدير الثاني: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الشرك.

فشيئاً من الأشياء، أي: شيئاً من المعبودات سواء أكان ذباباً أو أقل من ذباب.

وشيئاً من الشرك، أي: شيئاًَ من أدنى تعلُّق بقلبك، فأنت على خطر؛ لأن الله عزَّ وجلَّ يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦].

إذاً حينما نقول: إن من منهجهم الدعوة إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، فلأنها هي طريقة القرآن.

وإن شئتم مزيد إيضاح، فالله عزَّ وجلَّ حذر من الشرك حتى في خطابه الأنبياء، وحاشاهم أن يشركوا، وذكر من سيرهم أنهم يحذرون أبناءهم، وأبناؤهم على الحق، فالله عزَّ وجلَّ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥] وحاشاه أن يشرك، فهل هذا كان اتهاماً للنبي صلى الله عليه وسلم في عقيدته أو في توحيده؟!

إنما هي طريقة القرآن، فالله عزَّ وجلَّ قال لإبراهيم، وإبراهيم هو صاحب الملة الحنيفية، والذي أُمِر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باتباعه، قال له: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:٢٦] حاشا إبراهيم عليه االسلام أن يشرك، وهو صاحب الملة الحنيفية، وهو الذي قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:٣٥] ولهذا قال إبراهيم النخعي: "ومَن يأمن الفتنة بعد إبراهيم؟ " وهو الذي قال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:١٣٢] وكذلك في آيات كثيرة منها قول الله عزَّ وجلَّ لنبيه: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء:٢٢] {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:٣٩] وحاشاه عليه السلام أن يُشرك.

إذاً مِن أصول أهل السنة والجماعة، ومن منهجهم: الدعوة إلى التوحيد.

يأتي ولهذا لو فكرت -فعلاً- كيف لو أن الناس تُرِكُوا من التعاهد بتوحيد الله عزَّ وجلَّ! لا شك أنهم سينحرفون، ولهذا كثرت صور الشرك الموجودة في كثير من بلاد المسلمين من التعلق بالقبور، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأشياء كثيرة مما هو شرك أكبر يخرج من الملة، فالناس تضعُف، ولعلك تلاحظ -مع الأسف- حتى في بلادنا لما ضعُف تركيز علمائنا رحمهم الله في التربية والتعليم، بدأ يظهر قبول الشعوذات والسحر، والكهانة، وشيء ما كنا نعهده، مما يدل على أن النفوس ضعيفة.

إن النفوس ولو كانت مؤمنة، ولو كانت تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أن محمداًَ رسول الله، وتؤمن بالله عزَّ وجلَّ، وتؤمن بتوحيد الربوبية، وتؤمن بحق الله عزَّ وجلَّ وقوته وقدرته وتدبيره، لكن فيها ضعفاً، فتحتاج دائماً أن تعاهَد بالتوحيد، وتعاهَد بالإخلاص إلى الله عزَّ وجلَّ، والتعلق به، وتجريد العبادة له سبحانه وتعالى، وإفراده بالعبادة بأنواعها.

إذاً فمن المنهج: الدعوة إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، والتحذير من ضده الذي هو الشرك بشتى ضروبه وصنوفه مهما دَقَّ، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء في ليلةٍ ظلماء على صخرةٍ سوداء} أخفى؛ لأنه لا يُرَى مما يدل على عِظَم الأمر، وشدة خطره وضرورة التذكير به والدعوة إليه، وتحذير الناس من الشرك، وبيان التوحيد.