للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقفة مع قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)

النوع الثاني: فرض كفاية، وهذا هو الذي قصدته الآية في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:١٢٢].

سوف نقف عند هذه الآية لنتبين نوعاً من الفقه في هذه الآية.

الآية كما تعلمون في سورة التوبة، وسورة التوبة تسمى سورة براءة، وتسمى الفاضحة، وتسمى المقشقشة؛ لأن حديثها عن الجهاد وعن القتال عجيب، وحديثها عن فضح القاعدين والمنافقين شيء كبير، وقال الله عز وجل فيها: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:٤١]، وقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:٣٦].

فكان القتال فيها صريحاً، والأمر فيها يكاد يكون لجميع الناس.

في هذا الحديث العظيم، وفي هذا التهييج الكبير للقتال وبيان أهميته للأمة، وبيان أثره عليها قوة وضعفاً وعزة وانتكاساً، وجاءت قضية المخلفين وقضية الثلاثة الذين خلفوا، وآيات تهتز وتقشعر منها الأبدان في ثنايا ذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:١٢٢].

فبعد هذا الحث العظيم على الجهاد ومنزلته من فروض الأمة ومن موقفها ومن حياتها وتاريخها، كأنه يفهم أن الأمة لا بد أن تنفر كلها للجهاد، فتأتي هذه الآية لتبين المطلوب الحقيقي، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:١٢٢]، مع أن فيها تفسيرات كثيرة، ولكن الأظهر وهو الذي يراه جمهور العلماء هو ما ستسمعونه إن شاء الله.

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:١٢٢]، أي: ليس للمؤمنين أن ينفروا كافة للقتال؛ لأن هذا يترتب عليه أمور أخرى.

يقول القرطبي في تفسيره: يتبين أن الجهاد ليس على الأعيان، فلو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، ولكن ليخرج فريق منهم للجهاد، وليقم فريق منهم يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع.

ثم قال: وهذه الآية أصل في وجوب طلب العلم.

ففي الآية إيجاب التفقه بالكتاب والسنة وأنه على الكفاية دون الأعيان.

وجاء هذا بعد الأمر الكبير بالجهاد لبيان منزلة التفقه في الدين، وأن على طائفة من الأمة أن تتفقه في دين الله، بمعنى: تعرف دقائق الأحكام وما كان من فروض الكفاية، فجميع أمور الدين عقيدة وشريعة وأخلاقاً وسائر ما يعرف بالأحكام من تحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم، هذه كلها علوم لا يتفرغ الناس لها كلهم، ولا يستطيعون أن يقومون بها كلهم، ولكن تتخصص فئة تقوم نيابة عن المسلمين بهذه العلوم، حتى تحفظ على الناس دينهم، وحتى تكون هي المرجع لحفظ هذا الدين.

ففرض الكفاية هذا هو الذي غالباً سيكون حديثنا عنه، وهو الذي سنتكلم عن فضله ووسائله، أما الفقه الذي يعم الناس كلهم فهو أمر واجب، وأشرنا أن بعض فروض الأعيان يتعلق بكل مكلف حسب طبيعة عمله، وأن هناك فروض أعيان على المسلمين كلهم كما يتعلق بالصلاة والزكاة والحج والصيام الخ، وهناك أمور تتعلق بكل مكلف بخصوصه على حسب تخصصه ومهمته، إذا كان غنياً، ففي الزكاة وإذا كان حاجاً، ففي الحج، حتى في النكاح يعرف أحكام النكاح وحقوق أهله عليه، وحقوق أهله نحوه الخ.

إذا كان هذا هو العلم بنوعيه الكفائي والعيني، فإن التفقه في الدين يظهر طلبه وشدة طلبه من هذه الآية: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:١٢٢]، ثم قوله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}، ولا شك أن هذا من أظهر الأمور على الحث على التفقه؛ لأن كل عاقل -فضلاً عن كل مسلم- يفقه عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم يريد الخيرية، ويرجو أن تناله هذه الخيرية.