للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المصلحة المرسلة وضوابط الأخذ بها]

وسوف يقتصر الكلام على المصادر التالية: المصلحة المرسلة، الاستحسان، سد الذرائع والاحتياط، عموم البلوى، العرف.

المصلحة المرسلة هي: المصلحة التي شهد الشرع لجنسها، بمعنى: أنها تدخل تحت أصل شهدت له النصوص في الجملة، وليست هي المصلحة الغريبة التي لم تشهد النصوص لنوعها حتى تكون قياساً، ولا لجنسها حتى تكون استدلالاً مرسلاً، فهذه الأخيرة ليست حجة عند أحد من الأئمة، والغزالي الشافعي والشاطبي المالكي يحكيان إجماع أهل العلم على رد المصالح الغريبة، ويدخلانها في باب الاستحسان الذي رده الشافعي وشدد النكير على القائلين به، وهو غير الاستحسان الذي روي عن مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما، فهذا الأخير استدلال بنص أو إجماع أو عرف أو مصلحة في مقابلة عموم أو قياس، وهو الذي سوف تأتي الإشارة إليه.

غير أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لابد فيه من أمور:-

الأول: أن تكون معقولة، بحيث تجري على الأوصاف المناسبة، التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.

الضابط الثاني: أن يكون الأخذ بها راجعاً إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين، بحيث لو لم يؤخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها؛ لكان الناس في حرج شديد.

الثالث: الملاءمة بين المصلحة التي تعتبر أصلاً قائماً بذاته وبين مقاصد الشرع؛ فلا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض دليلاً من أدلته القطعية، بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها وليست غريبة عنها.

ومن أجل هذا -أيها الإخوة- ونحن نتحدث عن الضوابط نقول: إن المصلحة أو الاستصلاح باب واسع ومدخل عريض، قد يدخل منه من لا يفقه في الشريعة ولا يدرك مراميها، ومن هنا منع منها من منع من المجتهدين خشية من هذا الباب، ومن المقرر والمعلوم أن الشريعة تراعي مصالح العباد، وباب الاجتهاد مفتوح فيما لا نص فيه، ولكن للاجتهاد شروطه، وللمصلحة ضوابطها وحدودها، فليس مرد المصلحة إلى تقدير الناس فيما يكون به الصلاح والفساد.

فإذا حسب الناس أن التعامل بالربا -مثلاً- قد بات مصلحة نحتاج إليها، ولا يقوم أمر الناس إلا به، فهو بمقتضى هذا النظر مصلحة حقيقة، وعلى الشريعة بما التزمته من تحقيق مصالح الناس ورفع الحرج عنهم أن تتسع لرفع هذا الحكم؛ لأنه قد رأى ذلك علماء في الاقتصاد، وخبراء في التجارة، من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها.

وقد يتفق علماء التربية وعلماء النفس -مثلاً- على أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع يهذب الأخلاق، ويخفف من شدة الميل الجنسي، ويمكن من استخدام كافة القوى البشرية المتاحة من أجل التنمية، فلا يبقى نصف المجتمع معطلاً، فهي مصلحة ينبغي تحقيقها، والشريعة تراعي تحقيق المصالح.

وقد يقول الأطباء: إن لحم الخنزير ليس بمستخبث، وإن أكله لا يعقب أي آثار سيئة في الخلق أو الجسم.

إننا نقول لهؤلاء وأولئك وكل من يسير في ركابهم من المستغربين والمستشرقين والذين في قلوبهم مرض: إن تقدير ما به يكون الصلاح والفساد عائد إلى الشريعة نفسها، وقد وضع ذلك في مقاصد الشريعة الخمسة: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل، ثم حفظ النسل، ثم حفظ المال.

ويبدو لي أن " ثم " هنا استعمالها ليس دقيقاً؛ فأقول: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وإن كانت قمتها -لا شك- حفظ الدين، بل إن بعض الأصوليين يؤكد هذا: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل إلخ.

وبناءً عليه فإن كل ما توهمه الناس مصلحة مما يخالف تلك الأسس العامة في جوهرها، أو الترتيب فيما بينها -أيضاً- ترتيباً مرعياً، أو يخالف دليلاً من الأدلة الشرعية، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح، ليس من المصلحة في شيء، وإن توهمه من توهم.

أما نتائج خبرات الناس وتجاربهم، فيجب عرضها على نصوص الشريعة وأحكامها الثابتة، فما وافقها أخذ به، والحكم بذلك للنصوص الشرعية ومقاصد الشريعة، وما خالف ذلك وجب طرحه وإهماله واعتباره مصلحة ملغاة.

ويجب أن يفهم أن الشارع لم يلغ مصلحة دلت عليها تجارب الناس وعلومهم، بل الواقع أن تقدير هؤلاء المجربين والخبراء للمصلحة كان خطأً، صاحبه خلل وفساد نابع من هوى في نفس المجربين، أو خطأ في وسائل التجربة، أو نقص في الاستقراء، فنحن نتهم تقدير هؤلاء، ولا نتهم نصوص الشريعة.

نخلص من ذلك إلى أن الخبرات العادية والموازين العقلية والتجريبية المحضة لا يجوز أن تستقل وحدها بفهم مصالح العباد وتنسيقها.

وهذا فيما يتعلق بالمصلحة.