للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عرض موجز لقصة أصحاب الكهف]

أيها الإخوة: ولمزيدٍ من البيان التطبيقي والإيضاح العملي، فهذا عرض في إيجاز لقصة أصحاب الكهف، يتجلى فيها الجمع بين السنن والخوارق، والنواميس والمعجزات، إن هذه القصة على ما فيها من العجائب فهي ليست بأعجب آيات الله، ففي هذا الكون من العجائب المبثوثة، والآيات المنثورة، ما يفوق العجب من أصحاب الكهف والرقيم: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف:٩].

أصحاب الكهف فتية من صالح قومهم، ثبتوا على دين الحق، لما شاع الكفر والشرك في قومهم، وانتشر الباطل والبغي في ديارهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الكهف:١٣ - ١٥].

شباب اجتمع لهم الإيمان والفتوة، تحققت لهم الهداية والثبات، سلمت قلوبهم من الحيرة، وامتلأت شجاعة وسكينة، آثروا رضا الله على زينة الحياة ومتعها، تلجأ إلى ربها في كهفها حين يعز عليها أن تعيش به في الناس: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:١٦].

الكهف ضيق خشن، ولكن حمى الله أوسع وأرحم، السعة في الإيمان والقلوب وليست في الأجساد والكهوف، والرحاب في رحمة الله وليست في الجدران والكهوف، رحمة الله حين تنتشر في القلوب والآفاق، تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد، تتمثل في الممنوع كما تتمثل في الممنوح، يجدها من يفتحها الله له في كل شيء ولو فقد كل شيء، ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء ولو وجد كل شيء، ما من محنة تحفها رحمة الله إلا وهي نعمة، من داخل النفس مع رحمة الله تتفجر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة، ومن داخل النفس مع إمساكها يدب القلق والنكد والنصب، وجدها أصحاب الكهف في كهفهم حين فقدوها في المدن والدور.

ثم العجب من هذا: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:١٨]، الكلب قد بسط ذراعيه في مدخل الكهف، ومن الطرائف في ذلك ما ذكره بعض أهل العلم إذ قال: إن الكلب قد مد ذراعيه عند عتبة الباب ومدخله ولم يكن داخل الكهف حتى تدخل كهفهم الملائكة، وطريفة أخرى وذلك أنه لما كانت التبعية والصحبة مؤثرة فقد أثرت في الحيوان فسعد برفقتهم، فما ظنك بمن تبع الأخيار من بني آدم وصحبهم ومن أحب قوماً سعد بهم.

ثم يأذن الله ببعثهم بعد هذه المئين من السنين، {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:١٩] لا يدرون كم لبثوا فقصارى علمهم أنهم أدركهم النوم فناموا ثم استيقظوا، ثم رأوا أنه لا طائل من هذا السؤال، وليس من المهم معرفة الجواب، ففوضوا الأمر لله وانصرفوا إلى شأنهم: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:١٩].

وتختصر القصة ليدرك هؤلاء الفتية وليعلم الناس الذين استيقظوا في عهدهم كم من الأحوال قد تغيرت؟ وكم من الأعوام قد انقضت؟ وكم من الدهور قد طويت؟ وكم من الدول قد زالت؟ {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:٢١] فهذه هي الغاية، وهذا هو المغزى، وحين تنازعوا في عددهم جاء التوجيه، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:٢٢] صيانة للطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيده، وحتى لا يقفو المسلم ما ليس له به علم، فهذه أحداث طواها الزمن فهي من الغيب الموكول علمه إلى الله علام الغيوب.

وبعد أيها الإخوة: فهذه قصة الصراع بين الحق والباطل، وصورة مواجهة بين الإيمان والمادة، والتعلق بالأسباب والاعتماد على رب الأرباب سبحانه وبحمده.

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:١٣].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.