للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التلميح دون التصريح في الدعوة إلى الله]

من المسالك التي ينبغي أن يتحلى بها رجل الدعوة حينما يخاطب الجماهير: التلميح دون التصريح فمن القول الحسن: الجنوح إلى التعريض والتلميح دون التصريح، فالتصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم والتبجح للمخالفة، وإذا أخذت بالتصريح وكررته وأكثرت منه فإنه يجعل الإنسان يقسو، وأحياناً يندفع ويجابه ويواجه ويكشر، ويهيج على الإصرار والعناد، أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة، والأذهان الذكية، والبصائر اللماحة.

قيل لـ إبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه أيقوله له؟

قال: هذا تبكيت ولكن يعرض.

وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة داعي الخير فيها.

كيف والتعريض سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه، فكان يقول دائماً: ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا، ولو نظرت في القرآن الكريم في معالجة الأخطاء التي وقع فيها الصحابة، أو التي وقع فيها المنافقون، فإن الله عز وجل حينما عاتب أهل أحد قال لهم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:١٥٢] كان بإمكانه أن يقول: فلان وفلان وفلان أهل دنيا فأخرجوهم، وهؤلاء يريدون الآخرة، لكنه قال: منكم، وما عرفوهم، وكان بالإمكان أن يحدد حتى يخرجوا ولا يكونوا وسط البيئة، لكنه قال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:١٥٢] والإتيان بالدنيا ينافي الإخلاص فقوله: (منكم من يريد الدنيا) أي: لابد من إخلاص، ومع هذا قال: عفا عنكم، ضعف بشري يصيب النفوس، وسيأتي الكلام على هذا.

إن مقصودي من هذا أن القرآن لم يصرح، بل حتى في المنافقين دائماً يقول: ومنهم من يلزمك ومنهم من يقول: ائذن لي ومنهم الذين يؤذون النبي، ما قال: فلان وفلان وفلان، وكان بالإمكان أن يسميهم مع أن السيرة تسمي بعضهم، فمن قال: ائذن لي ولا تفتني هو فلان، لكن القرآن يعلمنا الأدب فيقول: منهم وفيهم، وما قال: فلان، مع أنه قد سمى أشخاصاً معينين، فسمى فرعون وأبا لهب، وأعداداً محدودين، لكن الأغلب أنه لم يسمِّ أشخاصاً بعينهم.

إذاً: الأصل التعريض، ولا يفضح إلا فاسق، ويحذر الناس منه لشدة فسقه؛ لأن التعريض يجعل خط رجعة، لكن إذا صرحت لإنسان يحاول أن يجد حججاً، ويجد في نفسه غلظة، ولا يمكن أن يستجيب له أبداً، حتى لو صلح يجد في نفسه شيئاً، لأنك ذكرت اسمه.