للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التعامل مع المدعوين]

مسلك آخر: أدب التعامل: ذلك أن ما سبق كان في القول والمخاطبة وحسن المجادلة، وهذا في التعامل المادي، ويكون ذلك في عدة مسالك أيضاً، وصور من اللين في التعامل والمداراة، والفرق بينها وبين المداهنة، وإقالة العثرات، ومواطن الترغيب والترهيب.

فالذي سبق كان أمراً قولياً مما كان ينبغي من الدعاة من الناحية القولية.

لين القول، وستر العيوب، والنصيحة لا الفضيحة، والتلميح دون التصريح، وهذا تعامل مادي، أي: حسي وليس قولي، فهذه صور من اللين في التعامل.

فنقول: إن النفوس مجبولة على حب من يحسن إليها، ويتلقاها باللين، ويبسط لها المحيا، والشدة قد تدفع إلى المكابرة والنفور والإصرار؛ فتأخذ النفس العزة بالإثم على نحو ما سبق، فالتعامل المؤثر ما كان دمثاً يفتح القلوب، ويشرح الصدور، فمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنون رحماء بينهم.

يروي معاوية بن الحكم السلمي قال: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه! ما شأنكم تنظرون؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم} كان الصحابة يصلون، وكان هذا الرجل لا يعرف أحكام الصلاة، وعطس رجل ومنهم وكان يعرف التشميت، فقال: يرحمك الله وهم يصلون، فاستغربوا وصاروا يرمقونه بأبصارهم فبهت، فجعل يخاطبهم في الصلاة وهم ينظرون إليه: {ما شأنكم تنظرون؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتونني -أي: يسكتونني- فلما رأيتهم يسكتونني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي ما ضربني ولا سبني، وفي رواية أنه قال: ما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن}، وفي مدلولها أيضاً قصة الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد إلخ

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا: "والمراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا طلب العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته دائماً في ازدياد بخلاف ضده".

وفي هذا يقول الإمام أحمد: "كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقومٍ يرون منهم ما يكرهون، يقولون لهم: مهلاً رحمكم الله".

ودعي الحسن البصري رحمه الله إلى عرس، فجيء بجامٍ من فضة -أي: قدح من فضة- عليه خبيص -والخبيص طعام من التمر والسمن- فتناوله فقلبه على رغيف فأصاب منه، أي: الطعام في إناء من فضة فأخذه وقلبه على الحصير وأبعد الإناء وصار يأكل.

فقال رجل: هذا نهي في سكوت مجرد أنه أفرغ الطعام على هذا الرغيف وصار يأكل، معناه أنه لا يؤكل في هذا الإناء من الفضة، فكان هذا نوعٌ من اللباقة في الإنكار.

ويروى أن الخليفة المأمون وعظه واعظ فأغلظ عليه في القول، فقال: يا هذا! ارفق، فقد بعث الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق فقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٣ - ٤٤].