للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إقالة العثرات والغض عن الأخطاء]

إن أسلوب المداراة المتقرر في الفقرة السابقة يقود إلى غض الطرف عن أخطاء المقصرين مادام طريقاً لاستصلاحهم، وإقالة عثرات العاثرين إذا كانوا كراماً ذوي هيئات، أو كان ذلك سبيلاً إلى دفنها وتقليلها، وإن شئتم برهاناً قريباً فاستذكروا قصة حاطب بن أبي بلتعة؛ تلك الواقعة الصحيحة، فهي صورة حية من صور الضعف البشري في لحظة من لحظات الزمن، مع أنه الصحابي البدري، ولكبر الزلة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صدق حاطباً حين أجابه ويحسن أن تسمعوا اللفظ.

قال الراوي: {فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله! قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني أضرب عنقه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إنما أردت أن تكون لي عند القوم يدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحدٌ من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع إلخ}.

قال حاطب للنبي صلى الله عليه وسلم: والله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله، أي: والله إنني مؤمن، وصدَّقه النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ضعف بشري.

فإذا عثر العالم، أو عثر رجل الدعوة، أو حتى رجل عادي من الناس؛ فمن المهم جداً إقالة العثرة، وأكثر ما أخذ الدعاة والجماعات والتجمعات الإسلامية هو نوع من التصنيف، إذا غلط من ليس من جهتهم أو إنسان آخر فإنها تكون سبة للدعوة، وهذا أسلوب لا يمكن أن يجتمع الناس بينما لو رأيتم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومسلك القرآن كما قلنا قبل قليل: ومنهم، ومنهم، ومنهم حتى تكون هناك عودة، ولا يسمى لأنه طريق -فعلاً- لاسترجاع الناس، أما إذا وُسم الإنسان وشُهر به، أو ذكر بعينه، فلا يكاد: يمشي بين الناس إلا مكابراً، وإما أن يهلك، نسأل الله السلامة!

فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ حاطب: {لقد صدقت ولا تقول إلا خيراً، أما علمت يا عمر أنه من أهل بدر، ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.

إذاً: إقالة العثرة ليس إقراراً للباطل، ولكنها إنقاذٌ للواقع فيها، فحق لمن غلط أو زل أن يسمع كلمة صائبة، وأن يستضيء بشمعة أمل، من أجل أن يرجع إلى الجادة، ويسير مع الأخيار من الصحاب.

يمر أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنباً والناس يسبونه، فأنكر عليهم صنيعهم وقال لهم: [[أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى.

قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم.

قالوا: أفلا نبغضه؟ قال: إنما نبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي]].

وكم عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن زلة، فعندنا -مثلاً- قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستلقٍ تحت شجرة ظلها كثيف، وكانوا راجعين من غزوةٍ، كما قال جابر في حديثه {فتركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم عليها سيفه، فجاء الأعرابي فأخذ السيف وخرطه، وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله، فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني يا أعرابي؟ فقال: كن خير آخذ، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا.

-هكذا مصارحة- قال: ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قومٍ يقاتلونك، فخلى سبيله} رواه البخاري.

فما قال: أمسكوه فإنه يريد قتل القائد، ويريد أن يقتل فلاناً من الناس فقضية مهمة وقضية كبرى، وهو يستحق القتل، لأنه شارع في القتل -كما يقال: شارع في الجريمة- ومع هذا قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا.

ولكن لا أعين عليك، فخلى سبيله فذهب، فقال لقومه: جئتكم من عند خير الناس، وهذه تكفي في الدعوة، فهذه القضايا من السيرة مهم أن نقف عندها.