للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدنيا سجن المؤمن، والآخرة فيها جنته]

هذه دار ابتلاء ليس فيها جزاء، ولهذا لما ركب الإمام ابن حجر العسقلاني وكان قاضي القضاة في مصر؛ ركب على خيله وخرج ومعه حاشيته، فاعترضه يهودي، وأمسك بالخطام وقال: يا شيخ! قال: نعم.

قال: تزعمون أن رسولكم يقول: (إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) فأي سجنٍ أنت فيه وأي جنة أنا فيها؟! وكان اليهودي فقيراً مقطع الثياب فقال: أي سجن أنت فيه وأنت على الخيول ومعك هذه الأشياء وأي جنة أنا فيها؟ فرد عليه ابن حجر رحمه الله قال: ما ينتظره أهل الإيمان إذا قيس على ما أنا فيه فإنهم في سجن، وما ينتظرك وينتظر أهل الكفر إذا قيس على ما أنت فيه فأنت في جنة.

أنت في بسطة إذا قيس على ما في النار.

قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات:٤٣].

والمفسرون يقولون: لِمَ لم يقل الله عز وجل كلوا واشربوا وانكحوا واسكنوا والبسوا؟ لماذا لم يذكر إلا الأكل والشرب فقط رغم أن في الجنة أكلاً وشرباً ولباساً ونكاحاً وسكناً؟ قالوا: للأغلبية، فإن غالبية نعيم أهل الجنة أكل وشرب، يتلذذون بمطاعمها ومشاربها، ولهذا أربعة أنهار من تحت بيتك، هذه أربعة أنهار من أجل ماذا؟ من أجل أن تشرب من العسل، ومن الخمر، ومن اللبن، ومن الماء.

أما الأكل: فمن لحم طير مما يشتهون، والفواكه متعددة ذكر الله منها نوعين في سورة الرحمن في الجنة الأولى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:٥٢] وفي الجنة الثانية قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:٦٨] فيقول الله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات:٤٣ - ٤٤] يعني هذا شأننا، وهذا عدلنا، وهذه مشيئتنا؛ أننا نجزي أهل الإحسان بما هم أهله {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠] كيف تحسن ولا يحسن إليك المحسن؟ كيف تكون محسناً في هذه الدنيا في تصرفاتك ولا يجزيك المحسن العظيم؟ قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات:٤٤].

ثم يقول عز وجل وهو ملتفت إلى الكفار وهم في النار في طبقات جهنم يقول: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:٤٦] أي في الدنيا، يقول: كلوا واشربوا وتمتعوا قليلاً ستين سنة أو سبعين سنة، وهي لا تساوي لحظة من لحظات يوم القيامة؛ لأن اليوم الواحد من يوم القيامة يساوي خمسين ألف سنة من أيامنا في الدنيا.

فيقول الله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:٤٦] أولئك محسنون والله يجزيهم، وهؤلاء كانوا يتمتعون في الدنيا: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:٤٦ - ٤٨].

إذا قيل لهم اعبدوا الله، خافوا الله، والتعبير بالركوع على العبادة للتغليب أيضاً؛ لأنها أشرف عبادة، أشرف عبادة على وجه الأرض الصلاة، أقدس موقف تقفه بين يدي الله هذا الموقف: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:٤٦ - ٤٨].

بعد كل هذه النذر، وبعد كل هذه المحاذير، وبعد كل هذا الوصف (وصف النار)، وبعد كل هذه الأيمان بالمرسلات، والعاصفات، والفارقات، والناشرات، والملقيات، يهدد ويتوعد ويبين مصير أهل النار ومع هذا كله يرفضون ولا يركعون، قال الله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:٥٠] بماذا يؤمنون بعد هذا كله؟ إذاً لا فائدة، لا يؤمنون إلا إذا قيل لهم: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:٢٩] وقيل لهم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:١٤].