للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة نوح عليه السلام]

قال الله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:١٦٣].

ونوح هو أول الرسل؛ أول رسول بعثه الله إلى الأرض هو نوح عليه السلام، بعد أن بدل الناس دينهم، وعبدوا الأصنام، وعبدوا غير الله عز وجل، بعث الله عز وجل نوحاً عليه الصلاة والسلام، فمكث يدعو في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومارس ألواناً متعددةً وصنوفاً كثيرة من أساليب الدعوة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:٥] كان دءوباً في عمل الدعوة، أي: ما كان يدعو بمحاضرة في الشهر مثلنا، لا.

بل ليلاً ونهاراً.

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:٥ - ٧] حتى لا يسمعوا {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} حتى لا يروه {وَأَصَرُّوا} أي: على الشرك {وَاسْتَكْبَرُوا} أي: على الآيات {اسْتِكْبَاراً} ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} [نوح:٨] أي: دعوة علنية {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:٩] دعوة سرية، أي: كل واحد يدعوه لوحده {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:١٠] وهذا من أعظم أساليب الدعوة أن تذكر الناس بنعم الله، فإنك إذا ذكرت الناس بنعمة الله أشعرتهم بحب الله لهم الذي تفضل عليهم بهذا الفضل {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:١٠ - ١٨] إلى آخر الآيات.

ورغم كل هذه الأساليب والطرق والوسائل والمدة الزمنية الهائلة -ألف سنة إلا خمسين عاماً- قال الله تعالى له: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:٣٦] وقال عز وجل: {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠] قال المفسرون: كان نتيجة هذا العمر الطويل والجهد الكبير اثني عشر رجلاً فقط.

ألف سنة ليلاً ونهاراً ثمرتها اثني عشر رجلاً! وبعد ذلك لما قال الله تعالى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:٣٦] أي: لم يعد هناك من سيدخل في الدين، فدعا نوح ربه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:٢٦] أي: إذا لم يعد هناك من سيدخل في الدين فما الفائدة التي تنتظر من هؤلاء.

{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ} [نوح:٢٧] إن كنت يا رب لم تعذبهم وتهلكهم فسَيُضلوا هؤلاء الاثنى عشر الذين معي ويزعزعوهم ويردوهم عن دينهم، وإذا ولدوا لا يلدون إلا فاجراً كافراً: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:٢٧].

قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:١١] انظروا إلى الاستجابة الربانية! جاءت بعد بذل الجهد البشري وهكذا الأنبياء ما كانوا يدعون على أقوامهم مثل ما نفعل الآن؛ بمجرد أن تدعو واحداً ولم يستجب تقول: أهلكه الله سبحان الله! أنت تريده على مرادك؟! وهدايته ليست على مرادك، بل بإرادة الله، فإذا أذن الله له بالهداية نزلت، ولهذا نوح ما دعا من أول أسبوع، ولا أول سنة، ولا أول مائة سنة بل لم يدع بعدها إلا لما قال الله تعالى له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ} [هود:٣٦] قال: يا ربِ! ما دام أنه لن يؤمن أحد فما فائدة بقائهم؟ إنك إن تذرهم لا يؤمنوا، أنا يا رب لا أصبر عليهم إلا رغبة في إنقاذهم، لكن ما دمت قد أخبرتني بعلمك السابق أن هؤلاء لن يؤمنوا {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:٢٧] لم يبق منهم إلا الإضلال {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:٢٧].

فالله عز وجل علم صدقه، وجهده فعذبهم، قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:١١ - ١٢] أي: التقى ماء السماء مع ماء الأرض وحصل الطوفان والغرق! أغرق الله عز وجل أهل الأرض كلهم، ولم ينج من تلك الفيضانات وذلك الطوفان إلا من ركب في السفينة، وكان الله عز وجل قد أوحى إليه أن يصنع الفلك، وكان يصنعه في الصحراء -لا يوجد بحر- وكلما مر عليه ملأ من قومه سألوه، قالوا له: ما هذه السفينة يا نوح؟ قال: هذه السفينة سوف أركب فيها وأنجو وأنتم سوف تغرقون كلكم، قالوا: أين البحر؟ -أتصنع السفينة في الربع الخالي؟ السفينة تصنع عند البحر- قال تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:٣٨] يعني: ضحكوا عليه، ولكن كان عنده ثبات على الحق، وكان على يقين من أمر الله تعالى، وما كان ضعيفاً، وهكذا يجب أن يكون المسلم حتى ولو سخر منه.

إذا سخر منك أحد؛ لأنك تمسكت بالدين، أو بالسنة، أو سلكت الطريق الصحيح، فيجب أن تثبت ولا يحملك هذا الاستهزاء على أن تتراخى، أو أن تضعف، أو ترى أنك على شيء غير طيب لا.

{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:٣٨] أي: نحن أولى بالسخرية منكم، أنتم تسخرون منا ونحن على الحق، فنحن أولى بالسخرية منكم؛ لأنكم على باطل.

ثم نزل الماء وحملت السفينة كل المؤمنين من أهله في العقيدة؛ لأن الله تعالى قال له: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:٢٧] يعني: أهله في العقيدة لا من النسب، ولكن نوحاً عليه السلام كان يظن أن معنى أهله: زوجته وأولاده وجماعته كما نظن نحن، فأركب المؤمنين وقال نوح لولده وكان كافراً: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:٤٢] لكن عقلية الولد عقلية مادية، قال: سأذهب إلى جبل! يظن أن المسألة سهلة، والحقيقة أن هذا طوفان من رب العالمين، لا ينجو منه أحد: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:٤٣] فقام نوح وتذكر أن الله قد وعده أن ينجي أهله: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:٤٥] أي: أنت قلت لي: أركب الأهل وهذا ابني من أهلي، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:٤٦] إن الأهلية -أيها الإخوة- هنا أهلية الدين، فإذا كان ولدك ليس على الإسلام فليس ولدك، وإنما رابطة العقيدة هي أعظم رابطة تربط بينك وبين الناس، والله تعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} [المجادلة:٢٢].