للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السبب الأول: التوبة إلى الله]

أول سبب يا من تريد الهداية، وأعظم سبب تحصل به على الهداية، وبدون تحقيق هذا السبب لا تتم لك الهداية، ألا وهو: التوبة إلى الله، إذ لا يهدي الله من لا يتوب، إن لو أن هناك شخصاً لا يتوب كيف يهديه الله وهو لا يتوب؟ فإذا كان مقيماً على الذنوب، عينه وأذنه ولسانه في الحرام ويقول: الله يهديني، وهو مُصر على الذنب، فهذا لا يمكن أبداً، فأول شيء قضية التخلية قبل التحلية.

فإذا أردت رخصة مرور لزمك أن تتعلم قيادة السيارة، فتذهب إلى مدرسة القيادة، ثم تدفع الرسوم، ثم تداوم المدة، ثم تحضر الامتحان، ثم تأخذ الشهادة، ثم تراجع المرور، فتقف في الطابور، ثم تدفع النقود المقررة، وبعد ذلك تجيء في يوم ثان أو ثالث وتأخذ الورقة من أجل أن تعبر بها في شوارع الدنيا، فكيف تريد أن تعبر على الصراط وما عندك رخصة للآخرة؟ كيف تريد أن تتجول في شوارع الجنة، كيف تريد أن تطير في أنهار الجنة، وعلى أشجار الجنة وما عندك رخصة إلى الآخرة؟ ما رأيكم بشخص يريد أن يقود السيارة وهو جالس في البيت، يقول: أريد أن أقود السيارة، لكن لا أريد أن أتعلم، التعلم هذا ليس بحسن، ولا أريد رخصة، هل يُسمح لهذا بقيادة السيارة؟ كذلك في الهداية لا بد أولاً من التوبة، التوبة إلى الله، فالتوبة هي سبيل الهداية، يقول الله عز وجل: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:٢٧] يعني: الذي لا ينيب لا يهديه الله، ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣] وبعد ذلك: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:٥٤] أي: إذا أردتم أن يهديكم الله فأنيبوا وارجعوا إليه.

إذاً لا بد من التوبة.

فيا من تريد الهداية! عليك أن تجري اختبار محاسبة لهذه النفس على الأعمال، وتأخذها جارحة جارحة، ومشكلة مشكلة، فتجعل بينك وبين نفسك مشارطة، وقد ذكر الشيخ أبو بكر الجزائري في كتابه منهاج المسلم، في مقدمة الكتاب.

الآداب ومنها: الأدب مع الله، والأدب مع رسول الله، والأدب مع القرآن، والأدب مع الوالدين، والأدب مع الزوجة والولد، والأدب مع الجيران، والأدب مع النفس، وقال: إن هذه النفس لابد لها أولاً من مشارطة، فتشارطها شرطاً كأنك تشارط غريباً، فإنك إذا دخلت أنت وغريب في شركة فإن أول شيء تفعله معه هو أن تعقد معه عقداً أو تكتب معه شروطاً، فرأس المال كذا وكذا، وسوف يتحرك هذا المال بكذا وكذا، وسوف تقسم الأرباح بكذا وكذا، ونسبة الأرباح حسب نسبة الأموال.

المهم أن هناك مشارطة مع النفس، وبعد المشارطة تأتي المراقبة، وبعد المراقبة تأتي المتابعة، وبعد المتابعة تأتي المحاسبة، وبعد المحاسبة تأتي المؤاخذة، إذاً هناك خمسة شروط: تشارطها، ثم تراقبها، ثم تتابعها، ثم تحاسبها، ثم بعد ذلك تؤاخذها، وكان هذا شأن السلف.

خرج أحد السلف من بيته إلى المسجد فمر بعمارة، فسأل: لمن هذه العمارة؟ قالوا: لفلان، فذهب إلى البيت، ولما دخل البيت وأراد أن ينام بدأ يعيد شريط اليوم المحاسبي، قال: في الصباح صليت في المسجد ثم خرجت من المسجد إلى البيت، ومررت بطريق كذا وكذا، ثم مررت بفلان وسلمت عليه، ومررت بمسكين وأعطيته، ثم ممررت على ضعيف وواسيته، ثم مررت بفلان وفلان -المهم أنه حاسب نفسه- فوجد هذه الكلمة: مررت على عمارة وسألت عنها وقلت: لمن هذه العمارة؟ فقال في نفسه: لماذا يا نفس؟ ماذا تريدين؟ لماذا تتدخلين فيها؟ أتريدين مثلها؟ يا نفس يا أمّارة، ثم بدأ يعاتبها، وبعد ذلك أصدر الحكم عليها، فقال: والله لأعاقبنك بصيام سنة.

فما رأيكم بهذا؟! فهذه نفسه بيده، لا تقدر أن ترفع نفسها عليه؛ لأن النفس كالجواد، إما أن تركبها أو أن تركبك، إن ركبتها ذهبت بك إلى الجنة، وإن ركبتك ذهبت بك إلى النار؛ تصير حمار نفسك، كثير من الناس الآن يقول: نفسي تقول لي، أي: ليس ربه الذي يقول له، ولا دينه، لا.

بل يقول: هواي، وكيفي، ونفسي، وأنا على هواي وكيفي ومزاجي ورأيي، لا.

فهواك ومرادك يجب أن يكون على مراد الله، وعلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلا بد أولاً من التوبة، وتأتي عن طريق المشارطة مع النفس، فتأتي إلى العين وتقول: يا عين! يا من كنتِ من أجل نعم الله عليّ في هذه الحياة، إذ لو طمس الله بصرك أيها الإنسان كيف تكون حياتك، أليست هذه النعمة عظيمة؟ تصور وضعك وأنت أعمى مغمض العينين، لكن أشرقت الأرض في وجهك {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:٨] هذه من نعم الله عليك، فيا عين! أنت من صنع الله، لم تصنعك أمي، ولا اشتراك أبي، ولا أنا زرعتك في رأسي، إنما أنت نعمة من الله، ولا بد أن تسيري أيتها العين فيما يرضي الله، والذي يرضي الله هو: أن أنظر بها في كتاب الله، أو في سنة رسول الله، أو كتب العلم، أو ملكوت السموات والأرض لأهتدي بالنظر إلى الله، أو مصالحي المعاشية الدنيوية، أو أعمال رزقي ووظيفتي، تجارتي زراعتي لكن لا أنظر بها مطلقاً في ثلاثة أماكن: المكان الأول: لا أنظر بها إلى محارم الله، النساء، لماذا؟ لأن الله أمرني فقال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:٣٠] أي: قل يا محمد للمؤمنين: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:٣٠] وكأن أحداً يقول: يا رب لماذا؟ قال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:٣٠] من الذي يعرف الأزكى؟ إنه الله، يعرفك، لأنه هو الذي خلقك: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:١٤] فيعرف الذي يصلحك والذي يفسدك، فلم يأمرك بغض بصرك إلا لأن في هذا راحة لقلبك.

فأشارط عيني على ثلاثة أمور: ألا تنظر إلى حرام، وألا تنظر إلى مسلم بعين احتقار وازدراء، وألا تنظر إلى ما متع الله به مسلماً من دنيا فانية: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:١٣١] فهذه هي المواطن الثلاثة حرام أن تنظر إلى امرأة لا تحل لك، حتى لا يسمّر الله في عينك مسمارين من نار بكل نظرة، وأن تنظر إلى مسلم بعين احتقار وازدراء إما لمال، أو لضعف، أو لجنس، أو للون، أو لمنصب، فالناس في الإسلام سواسية كأسنان المشط، (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى).

أو أن تنظر إلى أخ لك مسلم أعطاه الله دنيا، فتجيء وتقول: هذه العمارة له ونحن نحسبه فقيراً! هذه الأرضية له! هذه الوظيفة فيها! فلا.

لأنك إنما تعترض على تقسيم الله عز وجل؛ لأن القسمة بيد الله، وهو الذي قَسم، فكأنك تقول: لماذا يا رب تعطي هذا وتترك هذا! فأنت ليس لك علاقة؛ لأن القاسم والرزَّاق هو الله عز وجل.

فتشارط عينك هذه الشروط، ثم تنتقل إلى الجارحة الثانية والخطيرة وهي جارحة اللسان فتشارطها، وهذه الجارحة تفتك فتكاً عظيماً في الدين، إذ لا يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم، والحديث صحيح رواه الحاكم والترمذي بسند صحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفي نهاية الحديث قال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه -ثم أخبر بالأوامر كلها وقال في النهاية:- ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا -أمسك لسانك- قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على مناخرهم أو قال على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم).

احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقران

وقد وردت في اللسان أحاديث وآيات عظيمة تبين خطره، ففي البخاري ومسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سُئل: (أي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده) وفي صحيح البخاري ومسلم -أيضاً- قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) بمعنى: أن الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يتكلم الكلام النابي، والمرء مخبوء تحت لسانه، وإذا أردت أن تتعرف على ما في قلب إنسان فانتظر حتى يتكلم، فإذا تكلم فإنما يغرف من قلبه؛ لأن القلوب قدور، والألسنة مغاريفها، فمن كان في قلبه خير ظهر على لسانه، ومن كان في قلبه شر ظهر على لسانه، والإنسان قفل ومفتاحه لسانه.

وفي صحيح البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنة) وفي صحيح البخاري ومسلم أحاديث لا تترك لأحد مجالاً، فليس هناك كلام أصح بعد كتاب الله عز وجل من صحيح البخاري ومسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) كلمة واحدة.

وفي صحيح مسلم عن جندب بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً قال لأخيه وقد نصحه) كان أخوه مسرفاً على نفسه بالذنوب، وهذا رجل طيب اللسان، فنصحه ونصحه ولكنّ أخاه مسرف دائماً، فجاء يوماً وهو على المعصية فغضب وقال: (والله لا يغفر الله لك، فقال الله: من هذا الذي يتألى عليّ؟! قد غفرت له وأحبطت عملك).

انظروا إلى الكلمة! بواعثها حسنة ودوافعها الحماس والغيرة على دين الله،