للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغاية من خلق الإنسان]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: عباد الله: ما هذه الحياة؟ وما حقيقتها؟ ولماذا جاء إليها هذا الإنسان؟ ومتى سينقل منها بعد أن يؤدي دوره على مسرحها؟ وما هو المصير الذي ينتظره بعد أن يخرج رغم أنفه منها؟

الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار

الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار

هما طريقان ما للمرء غيرهما فاختر لنفسك أي الدار تختار

أيها الإخوة في الله: هذه الحياة لغزٌ محير، حارت في فهمه العقول في القديم والحديث، وعجزت كل الفلسفات البشرية أن تحل هذا اللغز أو تقدم الإجابة الصحيحة على هذه التساؤلات، وضل الإنسان، وشقي وحار، واضطرب وتاه، وبقي سعفة في مهب الرياح في صحراء هذه الحياة، لا يدري من أين جاء، ولا يدري لماذا جاء، ولا يدري إلى أين يصير بعد هذه الحياة.

إن حصول الشقاء لهذا الإنسان هو لقاء إعراضه عن مولاه، وتحقيق لقول الله عز وجل فيه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:١٢٤ - ١٢٧].

ضل الإنسان؛ لأنه لم يتعلم من الله الذي خلقه.

إن حكمة الخلق لا يمكن أن يتعرف عليها الإنسان من عندياته، فلابد أن يتعلم هذه الحكمة من الذي خلقه، وأنت أيها الإنسان لم تخلق نفسك، قال الله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:٣٥ - ٣٦] إن خالق الإنسان وخالق الكون هو الله الذي لا إله إلا هو: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر:٦٢ - ٦٣] {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان:٢ - ٥].

الأبرار: أي المستجيبين لله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:٥ - ٦] ليسوا عباد الشهوات، ولا عباد الذنوب والمعاصي والمنكرات، ولكنهم عباد الله، أخضعوا أنفسهم في هذه الدنيا لأوامر الله، واستسلموا لشريعة الله، وآمنوا بالله، رضوا به رباً، وبدينه ديناً، وبنبيه نبياً، فعاشوا على نورٍ من الله وبرهان: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:٦ - ٧].

تعلموا هذه الحقيقة من الله، أنهم ما خلقوا عبثاً؛ لأن العبث محال على الله، بل العبث غير لائق بك أيها الإنسان! لو بنيت جداراً في بيتك، أو صممت عملاً في محيط اختصاصك، ثم سألك أحد الناس، وقال لك: لمَ هذا؟ فقلت: عبثاً، أليس نقصاً في رجولتك؟ أليس قدحاً في عقليتك أن تعمل شيئاً عبثاً بدون حكمة؟ نعم.

والمحال الأعظم أن يخلق الله هذا الكون وهذه العوالم، سماوات وأرض، وبحار، ونجوم، وجبال وشجر، ودوابٌ وأنعام، وليلٌ ونهار محال أن يخلقها الله عبثاً.

يقول الله عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦] تعالى وتقدس أن يخلق شيئاً عبثاً: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٦] وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:٣٨] {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:١٧ - ١٨].

ويقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:٢٧].

إن الله عز وجل ما خلقك عبثاً، بل خلقك لحكمة، هذه الحكمة تعرفها من قول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] هذه حكمة خلقك، وهذا سبب وجودك: أن تعمر هذه الحياة بعبادة الله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٨].

الرزق مكفول، والعمر محدود، والإمكانات موفرة، والمنهج واضح، والطريق مستقيم، وأنت مأمورٌ أن تسير على هذا المنهج، وأن تواصل السير على هذا الطريق المستقيم، وألا تلتف أو تنحرف؛ فإنك إن انحرفت عن هدي الله وعن طريق الله، كان المصير دماراً وعذاباً في الدنيا، ودماراً وبواراً في النار: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:١٢٤] يعني: في الدنيا معيشة ضنكاً، والله ولو امتطى أحدث الموديلات، ولو امتلك ملايين الريالات، ولو نكح أجمل الزوجات، ولو سكن أرفع العمارات، ولو احتل أحلى وأعلى الرتب والمناصب، وقلبه بعيدٌ عن الله، فإن هذه كلها لا تزيده إلا عذاباً.