للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سماع النبي صلى الله عليه وسلم لأصوات المعذبين في القبور]

هل سُمِعت أصوات للمعذبين في القبور؟ نعم سمعت.

أولاً: سمعت بالأحاديث الثابتة من قِبَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أطلعه الله وأسمعه وأعطاه القدرة على سماع عذاب أهل القبور أعطاه الله القدرة ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط -بستان، والحائط يطلق على البستان الذي يكون فيه العنب- لبني النجار على بغلة له ونحن معه إذ جفلت به فكادت أن تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة).

أقبر: جمع قبر، والقبر على وزن (فَعْل) مما يجوز جمعه على وجهين: على وجه أَفْعُل وفُعٌوْل فتستطيع أن تقول: قبر وقُبُور، أو قَبْر وأقَبْرُ، وعلى وزنه مثل شَهْر فتقول أَشْهُر وتقول شُهُور فالله ذكرها في موضعين فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة:٣٦] وقال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:٢٢٦] فتجمع قَبْر على أَقْبْرُ وعلى قُبُور، ويجمع شَهْر على أَشْهُر وعلى شُهُور، فهنا جمعه النبي صلى الله عليه وسلم على وزن أَفْعُل.

فقال: (إذا ستة أَقْبُر أو خمسة أو أربعة قال: من يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟ فقال رجل: أنا أعرفها يا رسول الله! فقال: متى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الجاهلية قبل الإسلام، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ولولا ألا تدافنوا -يعني: لو سمعتم صيحة معذب لمتم ولما وجد بعضكم من يدفن بعضاً من الخوف والهلع- لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) رواه مسلم في صحيحه من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه، وزيد هذا ترجمته من أعذب التراجم وسيرته من أعظم السير، فهو زيد بن ثابت بن الضحاك الخزرجي البدري رضي الله عنه وأرضاه الصحابي الجليل شيخ المقرئين وإمام الفرضيين وكاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان من كتبة الوحي وأعلم الناس بالفرائض، قال: (أعلمكم بالحلال والحرام علي وأفرضكم زيد) حتى قال بعضهم: لو مات زيد لما علمت الأمة كيف تقسم الفريضة، وهذا العلم أعظم علم وهو أول ما يفقد من الأرض؛ لأن (العلم إما آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك ففضل) والفرائض علم عظيم يتخصص به زيد وله مذاهب فيه، والذي درس الفرائض في الكلية يعرف مذاهب زيد في بعض أقواله التي تميز وانفرد بها من سائر الصحابة، هذا الصحابي الجليل حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه القرآن، وتلا عليه ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي، وهما من القراء الذين قرءوا على زيد بن ثابت رضي الله عنهم، وهو الذي تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك، زوجته اسمها أم سعد بنت سعد بن الربيع رضي الله عنها، وسعد بن الربيع صحابي أنصاري قتل في غزوة أحد، وهو الذي قال: [والله! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد] وما عرف إلا ببنانه عرفته أخته بأنملة ليس في جسمه مكان إلا وفيه ضربة، بنته هي زوجة زيد بن ثابت رضي الله عنه، ولد له اثنا عشر ولداً منهم وهو الكبير خارجة بن زيد وهو صحابي، وزيد بن ثابت أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم لغة اليهود لما قدم المدينة وكان اليهود يكتبون ويكاتبون فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمكروا فأمره أن يتعلم لغتهم العبرية، قال: [فتعلمتها في خمسة عشر يوماً] أتقن لغة اليهود وهي لغة كبيرة جداً في خمسة عشر يوماً رضي الله عنه وأرضاه، قدم مرة على ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبر الأمة وترجمان القرآن؛ فأخذ بركاب حصانه فقال له زيد: [تنحَ عني يا بن عم رسول الله! فقال له ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا].

هذا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ينزل ويمسك بركاب حصان زيد وذاك يقول: تنح لا تمسكه يا بن عم رسول الله! أنت أفضل مني! أنت أقرب! أنت من بيت النبوة! فيقول: [هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا].

كلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه زيداً بكلفة عظيمة وبجهد كبير؛ حفظ الله به الدين إلى يوم القيامة، كلفه أن يجمع القرآن بعد غزوة اليمامة ومقتل سبعين صحابياً من أهل القرآن، أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر أن يجمع القرآن، فقال أبو بكر: [كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟] لأن الرسول لم يأمر بجمع القرآن، وإنما كان يأمر بحفظه، وما كان يأمر بتدوينه! فقال عمر: [إني أرى الموت قد استحر في الصحابة، وأكثر الذين يموتون أهل القرآن، فإن أردت أن تأمر فليحفظ وليكتب، قال عمر: فما زلت به حتى شرح الله صدره بما شرح به صدري، فجاء إلى زيد بن ثابت وكلفه بهذه المهمة، يقول زيد: والله! لحمل الجبال أسهل عليَّ من هذه المهمة -لأنه جهد، وليس بالسهل- فقال له: يا زيد! إنك شاب عاقل ولا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فقلت له: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: والله إنه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله صدره وصدر عمر رضي الله عنهم، فكنت أتتبع القرآن من اللخاف والرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال] وقد بقيت هذه الصحف عند الصديق، ثم عند الفاروق عمر، ثم عند حفصة بعد موت عمر، ثم أرسلت به إلى عثمان فلما أخذه عثمان، أمر زيد بن ثابت وأمر مجموعة من كبار الصحابة أن يكتبوا المصحف العثماني الذي هو موجود بين أيدينا، وسيبقى موجوداً إلى يوم القيامة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، أليس هذا جهداً عظيماً؟ من كلف به؟! من نال شرفه؟! من قام بمسئوليته؟! هذا الرجل موقفه هذا يعدل مواقف الأمم كلها إلى يوم القيامة إنه موقف عظيم رضي الله عنه وأرضاه، كان من فقهه رضي الله عنه -وهذا يجب أن يكون شأن طلبة العلم والدعاة إذا سئلوا- كان إذا سئل عن أمر قال: أوقع؟ فإن قيل: نعم وقع؛ أفتى فيه بما يعلم، وإن قيل: لا.

ما وقع لكن لعله يقع، قال: دعوه حتى يقع؛ لأن بعض الناس يفترض أشياء ليست موجودة ولا وقعت ويورط العالم أو الداعية أو المفتي في أنه يقول كلاماً لقضية لم تقع أصلاً، فيكون قول القائل ليس له مبرر، فهذا من فقهه رضي الله عنه.

بعض الناس يسأل يقول: يا شيخ! في شخص عمل كذا؟ فأقول: من الشخص هذا؟ فيقول: شخص، فأقول: دعه يتكلم هو؛ لأنه إذا كان يهتم بأمر دينه يأتي يسأل بنفسه؛ لنعلم ماذا قال لزوجته بالنص بالحرف؛ لأن الحكم فرع عن الكلام الذي يصدر من السائل (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) فقد تسأل سؤالاً بأسلوب يكون حكمه غير الحكم الآخر فيما لو سأله إنسان آخر بأسلوب آخر، فكان رضي الله عنه من فقهه أنه إذا سئل يقول للسائل: أوقع الأمر هذا التي تسأل عنه؟ فإن قال: وقع، أجاب بما يعلم، وإن لم يكن قد وقع يقول له: اتركه حتى يقع، وكان من ألطف الناس وأكرمهم, ومن أحسنهم خلقاً ولكن مع مَن؟ مع أهله في بيته يكون متواضعاً بسيطاً لطيفاً مزاجاً كثير التلطف، ولكن كان من أشد الناس توقراً واحتراماً مع الناس، كان وقوراً يهابه الناس إذا رأوه، لكن إذا دخل بيته يضع هذه الهيبة؛ وهذا من هدي الكريم صلى الله عليه وسلم.

بعض الناس تجده في خارج البيت صاحب أخلاق ما شاء الله! ولكن إذا دخل بيته يكون سيء الخلق مع أهله -والعياذ بالله- دخل الأقرع بن حابس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا به يقبل الحسن والحسين، فقال: (يا رسول الله! إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال: ما أصنع لرجل قد نزع الله الرحمة من قلبه؟!).

لا يا أخي! يجب عليك إذا دخلت بيتك أن تتواضع، إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحله الحسن والحسين ويقول: (نِعْم المطية لكما).

وفي يوم من الأيام أبطأ الرسول صلى الله عليه وسلم في السجود حتى كاد الناس يسبحون وهو ساجد فظن الصحابة أنه نسي أو قبض فلما انتهى من الصلاة قال: (إن ابني هذا ارتحلني وأنا ساجد، فكرهت أن أزعجه).

وكان صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر فدخل الحسن من الباب فجعل يتعثر من ردائه ويسقط ويقوم؛ فقطع الخطبة ونزل، حتى إذا جاء إليه حمله وأكمل الخطبة، هذه رحمة عظيمة منه صلوات الله وسلامه عليه، فيجب أن تكون أنت في بيتك رحيماً، إذا دخلت بيتك قَبّل أولادك قَبّل بناتك، لاعبهم، داعبهم، تواضع معهم، ادخل المطبخ وشارك المرأة؛ هذه الأمور تحببك إليهم وتجعلهم يألفونك، لكن إذا كنت غليظاً من يأتي يلطفهم؟ من تتصور أنه يقوم بهذا الدور؟ تتصور الجماعة يدخلوا يلاطفوا زوجتك؟ تتصور الجيران؟ لكن من الناس من إذا طرق عليهم أبوهم الباب وكأن الشيطان الرجيم دخل عليهم! يقال لأحدهم: أنت كيف تعمل إذا دخلت البيت؟ قال: إذا دخلت سكت المتكلم، واستيقظ النائم، وقعد القائم، طوارئ! دخل الغول! دخل العملاق الذي يسيطر! لكن هذا الغول إذا خرج إلى الخارج أذل من الدجاجة.

أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافرِ

أي: عنده هنا بطولة على المرأة الضعيفة، وفي الخ