للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيفية دعوة الأقارب وغيرهم]

السؤال

أنا شابٌ اهتديت بفضل الله سبحانه وتعالى، وأردت أن أبلغ أهلي دعوة الله، وأنتزعهم مما هم فيه من الضلالٍ عملاً بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤] وبقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:٦] ولكنني وللأسف الشديد فشلت، وقد وقف في وجهي والدي بحجة واهية، وهي أنني متشدد أو متزمت، والعكس صحيح فأنا لست متزمتاً، ولقد سلكت معهم جميع الطرق في الحكمة، ولكن للأسف ما أفادت، فوالدي لا يريد أن يسمع الأشرطة الدينية، أيضاً لا يأمر إخوتي بالمعروف، ولا ينهاهم عن المنكر في الدين، أفيدوني ماذا أعمل؟

الجواب

الدعوة دائماً -وهذه خذوها قاعدة أيها الشباب- حينما تأتي من الأسفل إلى الأعلى يكون قبولها صعب؛ لأن الأب ينظر إلى مصدر الدعوة من مَن؟ فإذا بها من ولده الذي كان يعهده أنه جاهل، وربما كان لهذا الولد ماضٍ سيئ منحرف، فهو يقيسه بأثر رجعي، ويزنه بمنظور قديم، ثم يزيد الطين بلة أن الولد أحياناً يكون شديداً يعنف أبيه، ويقسو على إخوانه، ويقسو على أمه، فتحصل بينهم الفجوة، ويتكهرب الجو بينه وبين أهله، ويؤدي هذا إلى رفضهم الحق رغم أنهم يدركون أنه على الحق، لكن لأن الحق مصدره ولدهم فلا يريدونه؛ عناداً له، يقول أبوه أقوم أصلي، قال: والله إنه قام من أجلي، والله ما أقوم حتى يذهب، يعاند ولده بمعصية الله، وبعض البيوت الراديو مغلق ليس فيه أغانٍ، لكن من يوم يسمعون ولدهم دخل قال: شغلي الراديو، أتى المطوع، (خليه يقول كلمة واحدة) فإذا رفعوه ودخل الولد قال: غلقوه، قال: وما دخلك يا ملقوف وقام ولطمه، رغم أن الراديو مقفول قبل أن يأتي الولد، لكن لماذا؟ عناد، وهذا ابتلاء من الله للمؤمن، واختبار لك أنت أيها المؤمن، وفي نفس الوقت ربما يكون عقوبة له، كأن يكون أسلوبك شديداً؛ لأنهم يقولون: إنك متزمت ومتشدد، لأن التزمت في نظر الناس الآن هو التمسك بالدين، في بعض البيئات إذا التزم الشخص وأطلق لحيته، ورفع ثوبه، وصلى في المسجد وحجب زوجته قالوا: متطرف، متطرف عندهم، يعني: تمسك بالدين، وإذا ترك الصلاة وزنا وسكر قالوا: مستقيم، لماذا؟ لأنه على الأغاني وعلى الطرب وعلى اللعب، وهذه أعراف جاهلية، فالمستقيم حقيقةً يسمونه متطرفاً، والمتطرف حقيقةً هم الذين تطرفوا لكن بجانب الشيطان والعياذ بالله.

وصار أهلك يقولون: إنك متزمت لا نقول: إنهم صادقون، لكن ربما معهم مبرر بسيط من قسوتك، فأنت عليك أولاً أن تصبر، وأن تدعو الله لهم في الليل، وتدعوهم إلى الله في النهار، ثم عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، والابتسامة، وعدم البغض.

انظروا يا إخواني! أيها الشباب! أيها الدعاة! الداعية لا يبغض في الله، قضية الحب في الله والبغض في الله هذه أمر عام، لكن الداعية يؤجل قضية البغض؛ لأنك إذا أبغضته في الله كيف يستجيب لك، هل يستجيب لك وأنت تبغضه؟ بعض الناس يقول: سوف أبغضه في الله إلى أن يهتدي، فإذا اهتدى راضيته! لا يهتدي أصلاً وأنت تبغضه وإذا اهتدى فقد تكون هدايته عن طريق غيرك الذي ما أبغضه، وبالتالي يفوتك أجره، افتح قلبك له، أحبه ولو كان عاصياً لا مداهنة وإنما طلباً وأملاً في نجاته وهدايته، إذ لا يمكن أبداً أن يطيعك وأنت تبغضه، أول درجات الطاعة أنه يحبك وتحبه، ثم بعد ذلك يستجيب لك، أما إذا أبغضته فهذه سلبية تجعل الناس كلهم فسقة وعصاة ومجرمين وأنا أبغضهم في الله، لكن ستأتي عليك لحظة ما معك في الدنيا شخص واحد؛ لأنك تبغض الناس كلهم، لكن لو كنت تحب الناس، وتدعو الناس مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الناس، يأتي حتى الكفار، يجلس عند أبي الوليد ويقول: اسمعني يا أبا الوليد وهو المغيرة بن شعبة يعطيه كلام الله ويناديه باسمه، ويقول: يا أبا جهل، يدعوهم ولا يهجرهم، فالداعية لا يبغض ابتداءً.

وأذكر لكم قصة يعلمني بها أحد مدراء المدارس الثانوية في منطقة من المناطق يقول: كان عندنا مدرس، وهذا المدرس خريج جامعة الملك سعود، يدرس كيمياء وفيزياء شيطان رجيم -والعياذ بالله- تجمعت فيه جميع الشرور، ما من شر في الأرض إلا وفيه، يقول: وجاءنا في المدرسة وأفسد علينا في المدرسة ما لا يمكن أن يتصوره العقل، فماذا نصنع به؟ وكلما ذهبنا للإدارة ونقول لهم انقلوه قالوا: أين نذهب به ما معكم إلا هو، يقول: أفسد الطلاب، أفسد المدرسين، يقول المدير: اتخذت موقفاً منه فأبغضته وأبغضه كل الطيبين في المدرسة، يقول: ثم جاءنا مدرس صالح نسأل الله أن يبارك في جهوده، يقول: لما أتى عُين في المدرسة مدرس دين (خريج كلية الشريعة) وداعية، كان بإمكانه من يوم أن أتى ورأى الناس يتكلمون عن هذا كان قال: أبغضه في الله، فلما حذروه في المدرسة قالوا له: انظر هذا الرجل فاسد، خبيث، مجرم، انتبه منه، قال: من هو؟ قالوا: فلان، قال: خيراً، المدرسون كلهم في غرفة لوحدهم يجلسون وهذا جالس هناك في غرفة لوحده، يدخن السيجارة؛ لأن التدخين ممنوع في المدرسة وضعوا له غرفة لوحده، فهو يريد أن يستوعب خمس دقائق في تدخين مستمر فتراه ينتهي من الأولى ويشعل الثانية وهكذا، يقول: دخلت عليه وجلست معه، السلام عليكم، كيف الحال يا أخي؟ فتعجب منه بلحيته ومدرس دين، ويعرف أنه مدرس دين، ويأتي يحييني بهذا الأسلوب، وفي اليوم الثاني كذلك، وفي اليوم الثالث ذهب إليه وجلس معه في الغرفة، قال: يا أخي! قال: نعم.

قال: أنا مدرس جديد وبحثت عن سكن ما لقيت، وعلمت أنك عزوبي فهل تقبلني يا أخي أسكن معك؟ قال: أنت تسكن معي وأنت مطوع؟ قال: نعم أسكن معك يا أخي؟ قال: ما أصلح لك، والله ما أصلح لك يا أخي، قال له: يا أخي دعني أسكن معك على الأقل مؤقتاً إلى أن أجد لي بيتاً أو تجربني يا أخي ربما أنفع وأصلح للسكن معك، جربني على الأقل يا أخي أنا جالس في الفندق ليس عندي بيت وما وجدت، هل تسمح لي بغرفة أسكن معك فيها؟ قال: بشروط، قال: أنا لا أصلي، قال: وما لي ولك إن كنت لا تصلي، وهل تصلي لي؟! الصلاة لربك، إن صليت فالله يجزيك خيراً وإن رفضت فما أنا وكيل عليك يا أخي! قال: أنا أدخن، قال: دخن إلى أن تدوخ، قال: عندي أغانٍ، وأفلام، ويأتينا أناس، قال: إن شاء الله لا ترى مني إلا كل خير فذهب ووضع له غرفة وسكن معه، ولم يقل له كلمة في الدين إنما خدمة، يذهب قبل نهاية الدوام، يذهب هو قبله ويغسل الصحون وينظف ويطبخ الغداء ويعمل السلطة، ومن يوم يأتي يحضر له ويأتي يتغدى، إذا غلق يريد ذاك مسكين يريد يكافئه يقوم قال: والله لا تغسل صحناً، يا أخي أنا، قال: أنا عزوبي منذ أن خلقني الله، ولهذا لا يمكن أن تغسل الصحون أو تطبخ ما دمت معك، فأنا طباخك وأنا الغسال حقك، قال: جزاك الله خيراً، وقام وأخذ الصحون ونظفها.

ويأتي في يوم الجمعة أو الخميس الذي فيه الغسيل يدخل بهدوء ويفتح غرفته عليه، ويأخذ شراريبه، ويأخذ ثيابه وبجامته، ويذهب يغسلها، ولا يقوم ذاك من النوم إلا والفطور مجهز، والجبنة والقرصان قد أحضرها من السوق، واستمر على هذا فترة من الزمن وهو يخدمه ولا يكلمه ولا كلمة في الدين، ولا يقول له شيء، فإذا رآه يدخن أو يغني أغلق غرفته ويذهب لوحده، فعندما رأى ذاك الرجل الخدمة المتناهية والبذل والعطاء أحبه حباً لا يمكن أن يحب أحداً مثله؛ لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.

أما أن تأتي إلى شخص وتبغضه وتقول أنا أبغضه في الله وأريده أن يهتدي؟ لا يمكن أبداً، هذا يبذل ويبذل ويهديه، وكلما نزل إلى جدة؛ لأن هذا الداعية أهله في جدة، كلما نزل إلى جدة لا يأتي من هناك إلا بهدية، ما هي الهدايا التي يأتي بها؟ لم يأتِ له بشريط إسلامي، ولا بكتاب إسلامي؛ لأنه يعرف أنه مريض لا يقبله، أتى له مرة ببجامة، ويأتي له بمناشف، وشراريب، وجزمة من جنس ما يريد، وهذا كلما تأتيه هدية ما هذا الإنسان؟ هذا إنسان غريب! أخيراً في يوم من الأيام وهم يتغدون قبل صلاة العصر قال: يا أخي أراك دائماً مسروراً ومبسوطاً وفرحاً، فما هو السر الذي يجعلك مسروراً، ويجعلك مبسوطاً، قال: الصلاة، أنا والله يا أخي تنتابني الهموم والمشاكل والغربة والتعب فإذا دخلت المسجد وصليت، والله إن الله عز وجل يذهب ما في قلبي ويشرح صدري؛ حتى كأني أشعر أنني أسعد إنسان في الدنيا، قال: ما رأيك؟ أصلي معك اليوم، قال: نجرب، لو أنه قال له: قم صل معي لقال: لا.

لكن جاءت منه عرضاً، قال: لكن ما يصلح لك وضوء اغتسل، فذهب واغتسل ولبس ثوبه وخرج يصلي، وهو ذاهب إلى المسجد وقف في الصلاة وقال: اللهم إني يا ربي وقفت بين يديك فلا تردني خائباً، وقف بين يدي الله عز وجل وصلى صلاة العصر ولما رجع قال: والله صدقت، والله إني أشعر الآن بحالة ما كنت أشعر بها في الماضي، قال: إذاً: اسمع هذا الشريط، وسمعه، وأكمل الشريط وأخذ شريطاً آخر وكتاباً آخر وهكذا.

فيقلب الله حياته رأساً على عقب، وأصبح من الشباب المؤمن الملتزم، وحصل على بعثة وذهب إلى أمريكا لدراسة الماجستير والدكتوراه، وهو الآن لا يزال هناك، حصل على الدكتوراه، ورفض أن يرجع إلى هنا، لا زال هناك يقولون: يبذل حياته للدعوة إلى الله، ينتقل وما معه شغلة ولا وظيفة ولا عمل إلا الدعوة إلى الله، يتنقل من ولاية إلى ولاية، ومن عمارة إلى عمارة، ومن اجتماع إلى اجتماع، ويخوض أمريكا كلها بالدعوة إلى الله، وكل هذا بأسباب صبر ذلك الرجل عليه، لكن لو أنه أتى من أول يوم وقال: هذا خبيث هذا قليل دين وما فيه خير، لا يا أخي! فأنا أقول لأخينا هذا الصالح المبارك الطيب الشاب: الله يوفقنا وإياك، اصبر على أبيك، واصبر على أهلك.

فندعو الأخ الكريم إلى الصبر على أهله، وإلى التودد والتحبب إليهم، والخدمة لهم، وليعلم أن قضية الهداية وقلب القلوب هذه ليست بالأمر الهين، خصوصاً عند كبار السن الذين قضوا أعمارهم المديدة على نوعٍ ونمطٍ معين من الحياة، ثم يريد الشاب أن يغيرها بين يوم و