للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عظمة سورة الأنعام ومكانتها]

هذه السورة لما نزلت لم تنزل كغيرها من السور، وإنما نزلت بهيئة عظيمة، يروي ابن مردويه بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت سورت الأنعام ومعها موكبٌ من الملائكة سدَّ ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض ترتج بهم، ورسول الله يقول: سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم) نزلت هذه السورة ومعها موكب من الملائكة نزل مع السورة عددهم سبعون ألف ملك، لهم زجل؛ ولهم صوت بالتسبيح، والأرض بهم ترتج من عظمة هذا الشيء الذي نزل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله العظيم! سبحان الله العظيم!) ينزه الله تبارك وتعالى.

هذا الموكب من الملائكة، وهذا الارتجاج في الأرض واضح في السورة، كما يقول بعض المفسرين: إنها هي نفسها ذات موكب، وموكبها ترتج له النفس، ويهتز له القلب، إنها مملوءة بالمواقف، وبالإيحاءات، وبالمشاهد، وبالمعاني، فما جاء في هيئة الملائكة من المعاني موجود فيها.

وتبدأ السورة بمواجهة المشركين؛ الذين يتخذون آلهة ويسوونها بالله، {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١] أي: يسوون، حتى إنهم من فرط جهلهم ساوموا النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: اعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، يعني: مبادلة، القضية تجارية، سنة بسنة، فقال الله عز وجل حاسماً للقضية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:١ - ٦]، دينكم باطل فكيف أتبعه، آلهتكم مزيفة باطلة لا تملك، لا تخلق، لا تعطي، لا جزاء عندها، ولا جنة، ولا نار، فكيف أعبدها، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:١] مفاصلة؛ ولذا جاءت السورة: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١] يتخذون آلهة من دون الله، بينما دلائل التوحيد تجبههم وتواجههم وتحيط بهم في الآفاق، والسماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، بل تلامسهم في أنفسهم وكل ما حولهم، وكل ذرة من ذراتهم، وكل خلية من خلاياهم شاهدة على أن الله واحد

وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه واحدُ

ولكن ما الذي يحملهم على الشرك؟! إنه الجحود والإنكار، ولهذا يقول الله في السورة: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣].

تبدأ السورة بثلاث سمات ترسم الوضع كاملاً: أول سمة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١] وفي هذه اللحظة تبدأ تعرض: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:١ - ٢] أعندكم شك بعد كل هذه الآيات؟! {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:٣] ثلاث آيات تغطي الوجود الكوني كله.

الأولى: في خلق السماوات.

الثانية: في الوجود الإنساني كله.

الثالثة: في إحاطة معاني الألوهية كلها.

أي إعجازٍ وأي روعة في كلام الله عز وجل!! إنه كلام الله، لا يمكن ولا يتصور أن هذا الكلام كلام بشر، إنه كلام الله الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢].

ثم تعرض السورة بعد ذلك موقف المكذبين الذين يرون آيات الله مبثوثة في الكون والحياة مِن حولهم، بل مع أنفسهم، ومع هذا العرض ينكرون، فيأتي التهديد بعرض مصارع الأمم التي كذَّبت، ويتجلى السلطان القاهر الذي أوقع بهم هذه المصارع والقوارع، فيبدوا عجباً موقف هؤلاء المنكرين، {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:٤]، والآية هنا تعني: العلامة والدلالة، ما تأتيهم دلالة، ولا حجة، ولا علامة مِن العلامات التي تدلهم على الله {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:٤] فماذا ينفع فيهم هؤلاء؟! قال الله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:٥] هؤلاء الذين كذبوا بالحق المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزءوا بالحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يأتيهم الخبر.

تروي كتب السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم بدر على أهل القليب، وفيهم أبو جهل، وأمية بن خلف، ومجموعة من صناديد قريش، ثم قال لهم: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ ثم سكت، ثم قال: أمَّا أنا فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً) قال الصحابة: يا رسول الله! كيف تخاطب قوماً قد جيَّفوا؟! -كفار ماتوا، وانتفخت بطونهم، كيف تكلمهم؟! - قال: (والذي نفس محمدٍ بيده! إنهم أَسْمَع لكلامي منكم) يسمعون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يسمعه هؤلاء؛ فهو على سبيل التقريع والتوبيخ.

{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} [الأنعام:٥] إذا قال الله: سوف يأتيهم؛ فمن الذي يرد حكم الله؟! {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:٦] أما عندهم نظر؟! أليس هناك تأمُّل؟! {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام:٦] الأمم السالفة مكن الله لهم من القدرات، وأعطاهم من القوى والإمكانات ما ليس لكفار قريش كعاد قوم هود {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:٧ - ٨] وقوم صالح هم هؤلاء بجانبنا هنا في مدائن صالح، كانوا ينحتون الجبال -بدون جرافات- بأصابعهم، يحفرون الجبال وتحفر لهم، ويبنون في الجبال بيوتاً، ثم يدخلون في الجبل، ويخرِّمونه من الداخل، ويعملون مجالس، وغرفاً، ومستودعات داخل الجبل، ولهذا الذي يمر منها ويراها يبكي، ويمر وهو مسرع -كما جاءت به السنة- لأنها منازل القوم الظالمين، ظلموا أنفسهم، فالله يقول لكفار قريش: {أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:٦]، أما رأوا هذه الأشياء؟! أما سمعوا بعاد، وثمود، والأمم السالفة الذين أفناهم الله؟! أين هم؟! ألم يأخذوا العبرة منهم؟! أليس الذي أفنى أولئك قادر على أن يفني هؤلاء؟! {أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:٦] في هذا لفت نظر قوي: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام:٦] فماذا حصل؟! {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام:٦] وكما أهلكناهم بذنوبهم سوف يهلك الله كل صاحب معصية وذنب ويؤاخذه {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:٦] عملية تجديد للبشر، يأتي أناس ويذهب آخرون، والذي يذهب يذهب بما عمل، والذي يأتي يأتي ليجد ما يعمل، وكلٌّ يمر واللقاء عند الله تبارك وتعالى.