للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البخل]

من مظاهر سوء الخلق: البخل؛ وهو: عدم القيام بالواجبات الشرعية في الإنفاق, فإن الله سبحانه وتعالى أوجب على الرجل أن ينفق على أهله وعلى ضيفه، وعلى الوجهات الشرعية المطلوبة, ولكن باعتدال وتوازن فلا تبذير وإسراف، ولا بخل وتقتير, وإنما وسط، ولذا يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:٦٧] وقال عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:٢٩] هذه منزلة الكرم؛ لأن منزلة الكرم وسط بين البخل والتبذير, فبعض الناس بخيل وبعضهم مبذر, وكلا الخُلقين مذموم، والخلق الصحيح: الكرم, وكان صلى الله عليه وسلم أكرم من الريح المرسلة, وأكرم ما يكون في رمضان, لكن كان كرمه مقيداً، لا يتكلف مفقوداً ولا يبخل بموجود, إذا أتاه أحد يدخل بيته يقول: أعندكم شيء؟ فإذا لم يكن عندهم شيء لا يذهب ليستلف مثل بعض الناس الآن, بعض الناس فقير وما عنده شيء، فإذا أتاه الضيوف ذهب ليستلف ويذبح الكبش من ظهور القبائل, وبعد ذلك لا يسدد، ويموت وما زالت ذمته غارقة في كرم أخرق! هذا ليس بكرم, الكرم بالموجود، ولو كان ما عندك إلا فنجان ماء قدمه وقل: ما عندنا إلا هو, يقول: الله يخلف عليك.

أما أن تذهب وتذبح بالدين وإغراق ذمتك وذمة الناس من أجل أن تظهر أمام الناس بأنك كريم فهذا ليس بكرم, هذا إسراف وتبذير, وبعضهم يقدم للضيف ما لا يأكله, مثلاً الضيف شخص وذبح له ذبيحة, ويأتي ضيف آخر ويقول: والله لا أضع فلاناً مع فلان! لا بد له من رأس، ثم يذبح اثنين وقال: الله يحييكم على شرف فلان وفلان!! لماذا؟ هل سيأكل الذبيحة كلها؟ لماذا؟ هل مع الرجل بطن أم قلاب؟ وهل تدري أنك عندما خصصت له ذبيحة أنك أهنته لأنك حملته ديناً في ظهره؟ بمجرد أن يراك في قريته أو مدينته يقول: يا ليته ما جاء! لماذا؟ قال: والله ذبح لي في الرياض فلابد أن أذبح له ذبيحة! فلماذا تحمل الناس ديوناً؟! فلو أنك أدخلته في الذبيحة الأولى سيأكل هنيئاً ويقول: الله يخلف عليك, هذه العادات والأعراف كانت في الجهل، أما اليوم والحمد لله الناس تعلموا, والناس فقهوا, والناس تثقفوا، فلا ينبغي أن تتمسك بالعادات التي ما أنزل الله بها من سلطان, عادة الكرم عادة محمودة في العرب، لكنها معتدلة ليست مطلقة بحيث يقع الناس في الإسراف والتبذير, وتبديد الثروات فيما لا مصلحة منه ولا فائدة ولا طائل, لا.

الإسلام وسط, فالبخل من سوء الخلق.

والبخل يجعل صاحبه يقتر على أهله ولا يأتي لهم بما تعود الناس بحسب المستوى المعيشي للأمة, الناس يأكلون في بيوتهم كل يوم لحمة بينما هذا لا يأتي لهم بلحمة! يقول: اليوم الغداء خبز وشاهي!! قالوا: والعشاء؟ قال: جبنة وخبز, قالوا: والفطور؟ قال: ما يحتاج الفطور! الفطور غير مناسب! فهذا بخيل.

هناك قصة ذكرها أحد الكتاب في كتاب سيار في الرياض يسمونه أبو الرءوس، وفي المنفوحة عنده أراض وبيوت من قبل أربعين سنة, وعنده عمارات لكن الرجل متخصص في شراء الرءوس, إذا جاء المجزرة لا يشتري إلا الرءوس, لا يشتري اللحم, ويشتري الكروش ومعها الأمعاء, ويجمعها ويذهب بها إلى امرأته, قالت: ما في غيرها؟ قال: أبداً أحسن ما في الذبيحة الرأس: فيه العيون وفيه المخ وفيه المسامع, والرجل ما فيه إلا رأسه, والذبيحة ما فيها إلا رأسها, حتى إن المسكينة انذبحت من رأسه, ومرت الأيام والرجل لا تراه إلا يراقب الرواتب من أن تصرف ويذهب يأخذ الديون, فيذهب إلى صاحب الدين ويصلي العصر عنده، فإذا لم يجده صلّى المغرب، يرقبه في المسجد فإذا لم يأت قعد حتى صلّى العشاء فإذا به لم يأت، فتعجب فسأل عنه قالوا: غير موجود يمكن أنه مسافر, وكان في المسجد رجل عليه علامة الخير وعلامة العافية والصحة، مظهره حسن وريحته حسنة, رأى الرجل فإذا به جالس في طرف المسجد ظن أنه فقير أو شحاذ, فأتى إليه وقال: يا فلان قال: نعم.

قال: تفضل معنا نتعشى, فقال: حاضر جزاك الله خيراً, وهذا البخيل فرح بالعشاء من أجل أن يوفر العشاء في البيت لليلة ثانية, فذهب معه البيت وأدخله البيت، وإذا به ما شاء الله! البيت مزهر والنور والفراش الحسن, ويضع ذاك العشاء الطيب, فهذا استغرب وقال: هذا أمير أو موظف كبير أو تاجر من رجال الأعمال فسأله فقال: ما عندك من عمل؟ قال: ليس عندي أي عمل, فقال له: ما وظيفتك؟ قال: ليس عندي وظيفة, فقال له: أعندك تجارة؟ قال: ليس عندي تجارة, فقال له: فمن أين هذه الفلوس وهذه الخيرات، من أين تأتيك؟ قال: من الله عز وجل، الله رازقنا! فقال له: كيف رازقك؟ قال: والله أنا متخصص والحمد لله في مراقبة الناس الذين يموتون وهم بخلاء, وما إن يموت أحدهم حتى أذهب وأتقدم لزوجته وأرى ما كان من خير وراءه, فقال له: أصحيح؟ قال: نعم.

قال: وهناك بخيل في المنفوحة يقولون له: أبو الرءوس، والله إني أرقبه إلى أن يموت من أجل أن آخذ ماله!! فقال له: وتفعل هذا؟ قال: نعم.

فوقعت في قلبه، وبعد أن انتهى من العشاء استأجر سيارة أجرة بعشرة ريال، وأول مرة في حياته يستأجر سيارة، فقد كان يمشي بالأقدام حتى يصل إلى بيته! فنزل في السوق ويأتي بسيارة ويحملها كيس أرز وكيس دقيق وكيس سكر وصندوق شاي, ومن قبل كان لا يأتي إلا بالقرطاس! وعلى هذا لا يعطي المرأة، عنده شنطة عليها أقفال ويخرج لها بالحبة, لكن الآن جاء بالسيارة وهي مليئة بالملابس والطيب والصابون والخيرات, ويأتي بالسيارة على الباب ويفتح الباب وينادي: يا أم فلان قالت: نعم.

هي تعرف ما معه, ما معه إلا رءوس, قال: تعالي أنت والعيال, قالت: لماذا؟ -لأنه معودهم أنه لا يأتي بشيء- قال: تعالي احملي, قالت: ماذا نحمل ما الذي جئت به الآن! لعلك لم تترك رأساً واحداً في المجزرة؟ قال: لا.

تعالي هناك أخبار طيبة, فنزلت المرأة ورأت ما في الباب وقالت: من الذي أعطانا؟ قال: تعالي احملي واستدعي الأولاد، ففرح الأولاد عندما رأوا الخيرات، ويقوم الرجل صاحب السيارة ينزل الأكياس والمقاضي, والأولاد أخذوا الحلوى, والصابون أدخلته المرأة في الحمام؛ لأنه ما كان يشتري الصابون, يقول: الصابون هذا يخرب ويحرق الأجساد, والوسخ يجعل الجسم قوياً! والصابون يقطع القماش، وإذا غسلت القماش كل يوم تقطع القماش، اتركوا الغترة وسخة إلى أن تتقطع من نفسها!! ثم تغسلت وغسلت أولادها وعطرتهم بعد أن كانت ريحتهم منتنة من الكروش والرءوس التي كان يشتريها, ويدخل وإياها في ذاك الليل ويرتاحون, وليلة طيبة, وفي الصباح قالت: يا ابن الحلال! ما الذي حصل؟ وما الذي غيرك؟ قال: العلم عند الذي يرقب أبو الرءوس.

فالشاهد يا أخي الكريم! لا تكن بخيلاً, فإن البخيل بعيد من الله, بعيد من الناس قريب من النار, والكريم قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة: (لما خلق الله جنة عدن قال لها: تكلمي؟ قالت: قد أفلح المؤمنون, قال: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل) فلا تكن بخيلاً, ولا تكن أيضاً مسرفاً ولا مبذراً، وإنما كن وسطاً معتدلاً, أكرم الضيف إذا أتاك لكن لا تذهب تستلف له, أعطه الموجود في بيتك, وإذا رأيت الضيف لا تتجنبه، اعزمه ولكن لا تحلف عليه؛ لأن بعض الناس يحرج الضيف، والأولون كانوا يحلفون؛ لأن الضيف متشوق للعزيمة لكن يستحي أو لا يريد أن يثقل, الآن لا.

الضيف هو صاحب الفضل, والناس ظروفهم تغيرت، فإن حلفت عليه أو طلقت فقد قيدت حريته وضايقته, ولكن اعرض عليه الكرامة وأكدها ثم إذا اعتذر فاعذره؛ لأن الإكرام محبة لا بإكراه ولا قيد.

هذا مظهر من صور سوء الخلق.