للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعلق الروح بالجسد بعد الموت]

والروح هي: مادة شفافة لا ترى ولا تمس ولا تُعلم لها كيفية، وليس لها صفة إلا صفة العلو والدخول والخروج، وقد ثبتت بالكتاب والسنة ولا يعلم كنهها إلا الله، ولما سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥] ولو أن الروح شيء مادي يمكن الوصول إليه لما كان خافياً على البشر هذا اليوم، فقد استطاعوا أن يعرفوا كل شيء: استطاعوا أن يغوصوا في الأعماق، وأن يسبحوا في الفضاء، وأن يذهبوا إلى العوالم الأخرى ويرجعوا كما تسمعون الآن من الرحلة الأخيرة التي ذهبت ورجعت ونزلت يوم أمس، وكذلك استطاعوا أن يروا أدق شيء في الكون حتى الفيروس؛ والفيروس: نوع من الميكروبات والجراثيم؛ لكنه أدق من الجرثوم، فالجرثوم يمكن أن يرى بالعين المجردة، لكن الفيروس ربما لا يرى حتى بالمجهر؛ وقد لا يرى بأدق المجاهير؛ المجاهير الإلكترونية التي تكبر ملايين المرات، وبها يمكن أن يرى.

والروح لا ترى، وقد أجرى أحد العلماء الأمريكيين بحوثاً ودراسات على الروح، كيف تدخل، وكيف تخرج؟ وجاء برجل يحتضر ووضعه في صندوق وأجرى له جميع وسائل الحياة -صندوق زجاجي- وأخذ يرصد كل حركة وكل شيء يدخل هذا الروح، وبينما هو يرصد وإذا بالإنسان يموت، مات الإنسان داخل الصندوق دون أن يرى شيئاً دخل أو خرج! هذه الروح تخرج كما جاء في حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها) فذكر من طيب ريحها، وذكر المسك قال: (ويقول أهل السماء: روح طيبة، جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق بها إلى ربها عز وجل، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل) والحديث في صحيح مسلم عن حماد قال صلى الله عليه وسلم: (أما الكافر إذا خرجت روحه فذكر الراوي من نتنها) -والعياذ بالله- والنتن والطيب هنا شيء معنوي، يتحول عند الموت إلى شيء مادي، وهو الآن مادي فوالله إننا لنشم رائحة الإيمان ورائحة الطيب في الرجل الصالح، وإننا لنشم رائحة الخبث في الرجل الخبيث، ولو اغتسل بماء الأرض كله إنه لخبيث مثل الخنزير.

بعض المؤمنين تجده طبيعياً في اغتساله لكن فيه رائحة جميلة؛ وهذه الروائح عرفت الآن في الشهداء في الأفغان، ومن أراد أن يرى المزيد فليراجع كتاب: آيات الرحمن في جهاد الأفغان للشيخ الدكتور عبد الله عزام، وذكر من الآيات الكثيرة ومن ضمن ما ذكر: أن القتلى من المؤمنين تجد لهم ريحاً مثل ريح المسك، والدم مثل ريح المسك، وبعضهم إذا حمل الشهيد وجاءوا يغسلون أيديهم من الدماء تبقى الرائحة أياماً، بل بعضهم قال: بقيت الرائحة في يدي بعد أن غسلتها شهوراً، إنها رائحة المسك من دم هذا الشهيد.

قال: (فيخرج من نتنها وخبثها وقذرها، ويقول أهل السماء: روح خبيثة من قبل الأرض جاءت، فيقال: انطلقوا به إلى الأجل) وقد ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث البراء بن عازب وهو صحيح في سنن أبي داود وأخرجه أحمد في مسنده: ذكر التكريم الذي يكون لروح العبد الصالح عند خروج روحه من جسده حيث تصلي عليها الملائكة، وتفتح لها أبواب السماء، وتجعل في كفن من الجنة، وفي حنوط من الجنة، وتخرج منها روائح طيبة تفوق رائحة المسك، ثم تأخذها الملائكة في رحلة علوية كريمة مباركة، وتفتح لها أبواب السماء، أما الروح الخبيثة فتلعنها الملائكة -والعياذ بالله- عند عروجها، وتغلق أبواب السماء دونها، ويدعو كل فريق من الملائكة على باب ألا تعرج من عنده -يقول: اللهم لا تأت من عندي هذه الخبيثة- وتجعل تلك الروح الخبيثة في حنوط من النار ومسوح من النار، وتفوح منها الروائح الخبيثة التي تؤذي الملائكة، ويعرج بها إلى السماء فلا يفتح لها باباً، فتلقى روحه من السماء.

وفي حديث البراء يصف الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الرحلة من الموت إلى البرزخ، فيقول: (حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفُتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم، فإذا أخذها -يعني ملك الموت- لم يدعوها في يده طرفة عين -قال الله عز وجل: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:٦١] ويخرج منها كأطيب ريح وجد على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان؛ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين - {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:١٩ - ٢١] أي: يحضر كتابته المقربون من الملائكة- فيكتب كتابه في عليين -نسأل الله وإياكم من فضله- ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى).

أما الكافر والفاجر -والعياذ بالله- فقد تحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث فقال: (إذا نزعت روحه من جسده لعنته الملائكة بين السماء والأرض، وتغلق دونه كل أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في ذلك المسوح) والمسوح هو الشعر الغليظ الذي مثل المسحل أو المبرد، ليس فيه نوع من النعومة وإنما قاسٍ وشديد توضع فيه الروح فتتأذى الروح قبل أن تصل إلى الأذى العظيم في النار لا حول ولا قوة إلا بالله.

(ويخرج منها ريح جيفة كأنتن ريح على وجه الأرض؛ فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة، فيقولون: هذا فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا فتستفتح أبواب السماء فلا تُفتح، ثم قرأ: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:٤٠]).

يقول المفسرون: إن تعليق دخولهم الجنة على دخول الجمل في خرق الإبرة تعليق على المستحيل، هل من المعقول أن يدخل البعير في خرق الإبرة؟! ليس معقولاً، وفيه تفسير آخر مشهور: إن الجمل ليس الجمل البعير، الجمل: الحبل الغليظ الذي تربط به السفن في مراسيها، ولعلكم رأيتم السفن في الموانئ إذا وقفت ألقت حبالاً غليظة، وربطت بها في طرف الميناء حتى لا تسحبها الأمواج، وقالوا: إن الدليل على أن المقصود أن الجمل هنا الحبل؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:٣٢] * {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:٣٣] أي: كأنه حبال صفر طويلة، فالشرر إذا امتدت كأنه حبل طويل، والقول الأول أرجح، وهو أن المقصود: أنه إذا دخل الجمل، أي: البعير؛ إذا دخل البعير في خرق الإبرة دخلوا هؤلاء في الجنة وهذا مستحيل.

ثم يقول الله عز وجل: (اكتبوا كتابه في سجين) هذا فاجر؛ لأن الله تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:٧] وما سجين؟ {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:٩] ما هذا المرقوم؟ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المطففين:١٠] هذا المكتوب في هذا الكتاب.

(وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتطرح روحه من السماء إلى الأرض، ثم قرأ قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:٣١]) أعاذنا الله وإياكم من ذلك! وروى ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد الميت تحضره ملائكة، فإذا كان صالحاً قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء؛ فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أدخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزالون كذلك، أما الرجل الفاجر -الرجل السوء- فإنه يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميمٍ وغساق).

الحميم: الماء الذي بلغ درجة متناهية من الحرارة، والغساق: هو القيح والدم الذي أحمي حتى أصبح في درجة الغليان وهو خبيث، وإذا كان بارداً وهو قيح ودم ليس جيداً، فكيف إذا كان قيحاً ودماً وصديداً وهو يفور، إذ لابد أن يشرب، من أين يشرب؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:١٧] (وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج؛ فإذا عرج بها إلى السماء؛ قفلت أبواب السماء، فيقال لها: لا مرحباً بالروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث) لأن الخبث والطيب -أيها الإخوة- إنما يكتسب من الدين، الخبث يكتسب من المعاصي، والطيب يكتسب من الطاعات، فالجسد الذي غذي بالحلال واستعين به في طاعة الله، وما رئي إلا في الأماكن الطيبة، فتجد عينه، وأذنه، ولسانه، ويده، ورجله، وفرجه كلها طاهرة، وسل