للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البدائل التي أوجدها الشرع للاستغناء عن الحرام]

والدين إذا حرّم شيئاً ألى له بالبديل الأفضل.

فقد حرم الزنا وأباح الزواج، والزنا عمل مشين لا يليق بأصحاب النفوس الكبيرة حتى ولو كانوا كفاراً.

هذه هند بنت عتبة لما جاءت بعد أن أسلمت وكان لها ماضٍ في قتل حمزة؛ لأنها هي التي أعطت المال الكثير ل وحشي ووعدته بالحرية وقالت له: اذبح حمزة، فخرج يترصد حمزة حتى قتله، ثم بعد أن أسلمت وجاءت تبايع النبي صلى الله عليه وسلم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تبايعين على ألا تشركي ولا تزني ولا، فلما بلغ ولا يزنين قالت: أوتزني الحرة يا رسول الله؟!) كيف أبايعك على ألا أزني، وهل معقول أن أحداً يزني، فالعقول تنفر من هذا الخلق المشين قبل الدين، فكيف به بعد الدين؟ يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:٣٢] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة) ويقول عليه الصلاة والسلام: (ما عصي الله بذنبٍ بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرجٍ لا يحل له) ويُخبر عليه الصلاة والسلام أن فروج الزناة تشتعل ناراً يوم القيامة، فالزنا حرمه الشرع، ولكن أباح البديل، والنظير الطاهر المثالي وهو: الزواج وهو من جنس العملية الجنسية.

لكن الزنا عملية فوضوية بهيمية، ليس لها قيود ولا ضوابط، وليس لها نتائج ولا مسئوليات، وإنما يمارسها الإنسان في اعتباطٍ، ويترتب عليها فساد الأسر والمجتمعات، وتحلل الروابط، وعدم وجود العلاقات الإنسانية، فحرم الله الزنا وأباح الزواج، وهو العلاقة الجنسية النظيفة الطاهرة بين رجلٍ وامرأة بكلمة الله عز وجل، تتحدد بها العلاقة والمسئولية، ويتحمل كل من الطرفين آثار العلاقة من بنين وبنات، وتربية ومجهودات، فحرم الزنا وأباح الزواج.

وحرم الخمر وأباح العسل، وحرم الميتة وأباح المذكاة -وكل خبيثٍ في شرع الله حرام- حرم الله الربا وأحل البيع، والبيع: معاوضة مال بمال بمصالح متبادلة، لكن الربا معاوضة مال بمال أكثر بغير مصلحة متبادلة وإنما القصد منها الإضرار بالفقير، واستغلال حاجته، وتدميره، وزيادة بلاء على بلائه، فهذا حرام، وأما البيع فلا: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:٢٧٥].

فالإسلام لا يحرم شيئاً إلا ويحل البديل الأفضل؛ لأنه دين يتسم بالواقعية، ليس ديناً خيالياً يعيش في المثاليات ويترك الناس بغير حلول، بل يعيش الواقعية وبمنتهى الوضوح والبساطة، ولا يحرم شيئاً إلا ويُوجد البديل الأفضل منه.

فالأغاني التي تمارس الآن من قبل الأمة بشكلٍ يدعو إلى العجب والاستغراب، حتى غدت هذه الأمة أمة الغناء لا أمة القرآن؛ لأنها تعيش مع الغناء بالليل والنهار، تعيش مع الأغاني باستمرار، ينام الإنسان على الأغنية، وبعضهم لا ينام إلا وقد وضع السماعة الصغيرة في أذنه؛ لئلا يترك المجال للخير أن يدخل، يريد أن يسد أذنه ويخصصها لهذا الشر؛ لأنك إذا كنت تسمع كلمة شر من بعيد فإنه بالإمكان أن تسمع كلمة خير من بعيد فتزاحم كلمة الشر، لكن من يخصص أذنه بالذات ويدخل السماعة في أذنيه، ولا يسمع إلا الأغاني فقد خصصها للشيطان والعياذ بالله، وبعضهم يضع سماعات كبار وكأنه من رجال الفضاء، فاخترع مُخترعاً كبيراً، وهو أنه خصص أذنيه لسماع كلام الشياطين والعياذ بالله.

هذه الأغاني تفتك بالقلب، وتُذهب الدين، وتحرق الإيمان؛ لأن كلماتها وألحانها، وأهدافها ساقطة، تحرض على الجنس وتذكي الشهوة المحرمة في الإنسان، لذا حرمها الدين.

ولكنه عندما حرمها جاء بالبديل؟ يقول علماء النفس والتربية، ويسميهم أحد المشايخ بعلماء (العفس) ما هم بعلماء نفس؛ لأن العالم النفسي الذي يتعلم أسرار النفس من الله؛ لأن الله يقول على لسان عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:١١٦] فالذي يتعلم علم النفس بهدي الكتاب والسنّة يصل إلى علوم النفس الحقيقية، أما الذي يتعلم علوم النفس من غير منطلقات الشريعة فإنه يصبح علم (عفس)، إذ يرشد النفس على غير خلق الله، ولا مراد الله عز وجل.

يقولون هؤلاء العلماء: إن في الإنسان غرائز، وهذه الغرائز ضرورية لحياة الإنسان، فغريزة الجنس غرضها بقاء الجنس البشري، إذ لو عدمت الغريزة الجنسية عند الرجل والمرأة لما حصل اتصال، وبالتالي ينقرض الجنس البشري ويتلاشى الناس، وهذا مصادم لغرض الله وكونه، فالله أراد أن يكون هذا الإنسان في الكون للتكليف والابتلاء والاختبار، فحرّم الله الزنا وأوجد الزواج.

- غريزة حب الاستطلاع: كل واحد منا إذا رأى أو سمع شيئاً فإنه يريد أن يراه، حتى الطفل الصغير تشتري له لعبة صغيرة فيلعب بها يوماً أو يومين ثم يقوم بفكها يريد أن يرى ما بداخلها، هذه اسمها غريزة حب الاستطلاع.

فهذه الغريزة في النفس لم يلغها الإسلام، ولكنه هذبها وجعل لها مساراً صحيحاً؛ فجعل الاستطلاع في الخير: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:١٠١] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠] {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ} أي: يستطلعون ويتأملون (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩١] فقصر الله حب الاستطلاع فيما يعود على الإنسان بالنفع في الدنيا والآخرة، وحذر من حب الاستطلاع فيما يعود على الإنسان بالضرر في الدنيا أو الآخرة، ولذا حرم الشرع من أن تستطلع على عورات المسلمين: (من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه في رحله) (يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من تتبع عورة مسلمٍ تتبع الله عورته في الدنيا والآخرة).

فحب الاستطلاع له مجال في الدين، لكن في المجال الآخر المعاكس ممنوع.

- أيضاً الأكل والشرب: أليس شيئاً فطرياً وغريزياً عند الإنسان؟ إذ لو لم يأكل الإنسان لمات، فجعل الله الجوع في البطن وحب الطعام شيئاً غريزياً لتبقى حياً، وجعل الله غريزة حب الطعام لبقاء الجنس، ولكن جعل للطعام مساراً، وقسم الطعام إلى قسمين: طيبات وخبائث، فأباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، فالذي يقتصر على الطيبات يسعد، والذي يأكل من الخبائث يشقى، فهذا المسلم مقتصر على الطيبات؛ لأن الله أحلها له، ومعرض عن الخبائث؛ لأن الله حرمها عليه، وغير المسلم يجمع بين النقيضين ويجمع بين الخليطين، فتفسد عليه دنياه وأخراه.

غريزة الوجدان: الوجدان شعور داخلي في النفس ينتاب كل إنسان، يترتب عليه أن يصدر الإنسان أنغاماً وأهازيج وكلمات يرددها من أجل أن يربي داعي هذه الغريزة، فتجد الواحد وهو جالس (يونون)، ماذا بك؟ قال: والله سرحت، أين سرحت؟ ما الذي جعله يسرح ويعمل هذه الدندنة، هذه غريزة في النفس في كل شخص، ولهذا تجدون شعوب الأرض كلها تغني، فهناك غناء صيني، وكوري، وغربي، وشرقي وغيرها حتى الذين في مجاهيل إفريقيا، هناك أناس عراة في إفريقيا لا يعرفون الملابس لكنهم يغنون؛ لأن غريزة الوجدان موجودة عندهم، فلما جاء الإسلام وجد أن هذه الغريزة خطيرة على الدين؛ لأن لها وقود في النفس ومادة، فما ألغاها؛ لأن الدين واقعي، فكيف يلغي شيئاً أصيلاً في النفس البشرية، لا يمكن! ولكن جعل لها مساراً سوياً، وجعل لها طريقاً وهو: التغني بكتاب الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) والحديث في صحيح البخاري، وصحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن) وكان صلوات الله وسلامه عليه أجمل الناس وأشجاهم صوتاً لكتاب الله، وكان يمر بالليل فيسمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن ويترنم به فيجلس ويسمع، فجاء في يوم وقال له: (يا أبا موسى! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال له رضي الله عنه: أكنت تسمع يا رسول الله؟ قال: نعم.

قال: والله لو كنت أعلم لحبرته لك تحبيراً) يقول: قراءتي كانت عادية، ولكن لو كنت أعلم أنك تسمع لرأيت أن أضع لك شيئاً من التحسين والتجويد والترتيل، وهذا الآن واقعٌ في حياتنا، أنت الآن إذا صليت خلف إمام حسن الصوت جيد القراءة يرتل كلام الله ترتيلاً عظيماً تنشرح نفسيتك للصلاة؛ لأن عندك فطرة لسماع الكلام الطيب، والله كتب الإحسان على كل شيء، وأمر بتحسين التلاوة فقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:٤] فهذا الإسلام لم يحرم شيئاً إلا أحل وعوض بالبديل الأفضل منه.