للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإيمان: تطابق المعرفة مع العمل]

حقيقة الإيمان الذي نعنيه ليست مجرد أداء الشعائر؛ فإن كثيراً من الناس يصلون ويؤدون الشعائر وقلوبهم خراب من الهدى والإيمان، والدليل نص القرآن، فالله يخبر بأن المنافقين كفروا بالله وبرسوله ومع ذلك لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون، فهم يخرجون الزكاة ويصلون لكن مع هذا هم كفار، فليس مجرد أداء الشعائر الإسلامية الظاهرة هي دليل على وجود الإيمان، وليس مجرد التحلي أو التظاهر بمظاهر أهل الإيمان دليل قطعي على وجود الإيمان، كأن يرخي الإنسان لحيته، أو يقصر ثوبه، أو يكبر عمامته، هذه الأشياء من الدين، وهي من الإيمان لكنها ليست وحدها دليلاً كافياً على وجود الإيمان، إذ لا بد أن تقترن بأشياء تدلل وتبرهن على صدقها، وإلا فإن لحية أبي جهل كانت لحيته طويلة، ولكنها في رأس كافر.

فلا بد أن يكون مع هذا الظاهر ومع هذا الشكل مضامين أخرى، ومفاهيم تدلل على أن الظاهر منطبق ومتوافق ومتطابق مع الباطن، أما إذا رأينا سلوكاً غير سوي، ورأينا مظهراً سوياً يبدأ التشكيك في صحة السلوك والمظهر، فليس هذا ولا ذاك.

أيضاً: الإيمان ليس مجرد معرفة ذهنية بحقائق الإيمان، كأن تقرأ القرآن وكتب السنة كلها، وكتب العقيدة وتفهم كل شيء، فكم من إنسان يفهم ويتيقن ولا يعمل، والله يقول عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:١٤] فهم يعلمون، والله يقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣] فليس الإيمان مجرد المعارف الذهنية والثقافات الإسلامية، كأن نجد إنساناً يتكلم باسم الإسلام ويتكلم ويدافع باسم الدين وعنده قضايا وحقائق قوية في عقله، فلا نعتبر هذه فقط هي الإيمان الذي نقصده، أو هو حقيقة الإيمان، لا.

ليس كذلك، ولكن الإيمان عملٌ قلبي يبلغ أغوار وأعماق النفس، ويحيط بجوانب النفس البشرية كلها؛ من إدراك وإرادات ووجدان، إدراك ذهني -أي: عقلي- تتكشف فيه حقائق الوجود عن طريق الإيمان بما أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من قضايا الغيب، فيؤمن الإنسان بالجنة والنار وكأنه يراها، وأيضاً- بالملائكة وكأنه يراهم، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله، وبالكتب السماوية وبالرسل كلهم، ويؤمن قبل ذلك كله بالله عز وجل، هذا معنى الإدراك العقلي الذهني الذي تتكشف فيه الحقائق وتصل إلى حد الجزم الموقن به الذي لا يزلزله أدنى شك، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:١٥] هؤلاء هم المؤمنون، و (إنما) هنا أداة حصر، وحديث حارثة بن وهب لما سأله النبي عليه الصلاة والسلام: (كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمناً، قال: ما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا وشهواتها، فأضمأت نهاري بالصيام، وأسهرت ليلي بالقيام، وأصبحت وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: عرفت فالزم، إنك مؤمن نور الله قلبك بالإيمان) هذا معنى الإيمان الذي نعنيه، فالإدراك هو: تصديق يبلغ حد الجزم بالحقائق الغيبية الأثرية، بحيث لا تكون في شك أين الجنة وأين النار!