للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تشبيه الله للذين لا يثبتون على الدين بالكلب]

لقد تَعَلَّم العلم، ثم استجاب للعلم بالعمل وسار في العمل؛ لكنه سار في العمل فترة ثم انتكس، وترك دين الله، هذا ضرب الله له مثلاً من أبشع ومن أسوأ الأمثلة، وهو مثل الكلب -والعياذ بالله- الذي لا يثبت على الدين ولا يستمر عليه إلى أن يموت، هذا لا ينتفع منه؛ لأن العبرة دائماً بالخواتيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله ويقول: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة).

والعبرة دائماً في حياتك أنت بما تختم به حياتك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام والحديث في السنن: (إذا أحب الله عبداً استعمله، قالوا: كيف يستعمله يا رسول الله؟! قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه) يوفقك لعمل صالح تستمر عليه ثم تموت وأنت عليه، فلهذا يحبك الله؛ لكن توفق لعمل صالح ثم تتركه وتنتكس وتموت على غير العمل الصالح فلا عبرة بما عملت، فلو صليت العشاء أربع ركعات إلى ما قبل السلام بلحظة، ثم انتقض وضوؤك فالصلاة باطلة، رغم أنك صليت أربع ركعات سليمة وليس فيها شيء؛ لكنك ما أكملتها، ولو ما أكملت دقيقة واحدة، بطلت صلاتك.

ولو صمت في رمضان من الفجر إلى قبل غروب الشمس بدقائق ثم أفطرت، فصيامك باطل، بالرغم من أنك صائم (اثنتي عشرة) ساعة؛ لكنك ما أكملت، وكذلك مَن عَبَدَ الله طوال حياته، ثم ترك في آخر لحظة من حياته خُتِمَ له بالنار، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) وفي هذا الحديث حث للأمة على أن تتشبث وتتمسك بالعمل الصالح إلى أن تموت، لا تقل: لا والله سأعمل هذه ثم أتوب، فربما لن تتوب، ربما تموت عليها، وليس في هذا مفهوم للسذج والبسطاء الذين يقولون: ما دام أنها هكذا، أنا سوف أعمل بعمل أهل النار، وإذا لم يكن بيني وبين الجنة إلا ذراعاً عملت عمل أهل الجنة! يريد أن يضحك على الله، فلا يصلح هذا، ولا ينفع.

أيها الإخوة: الذين ينتكسون ولا يثبتون على دين الله حتى الممات، هؤلاء ضرب الله لهم بمثال سيئ في كتابه الكريم، وهو قوله تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦] هذه الآية وإن كانت نزلت في رجل من بني إسرائيل اسمه بلعام بن باعوراء، إلا أنه كما يقول المحققون من أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرنا ويقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:١٧٥] أخبر أمتك يا محمد! بنبأ ذلك الرجل الذي آتيناه آياتنا؛ آتيناه العلم، وآتيناه الآيات والدلالات الواضحات على عظمة الله، فبدل أن يعمل بها ويستمر عليها انسلخ منها، والانسلاخ عن الشيء هو: تركه مع عدم الرغبة في العودة إليه، إنك إذا خلعت ثوبك تخلعه من أجل أن يُنَظَّف وتلبسه مرة أخرى، ولذا إذا خلعته ماذا تقول؟ تقول: أنا فَسَخْتُ ثوبي أو خَلَعْتُ ثوبي، ولا تقول: سَلَخْتُ ثوبي، لكن إذا سَلَخْتَ جلد الشاة ماذا تقول؟ تقول: خَلَعْتُ جلدها؟ أو فَسَخْتُ جلدها، أو سَلَخْتُ جلدها؟! سَلَخْتُ جلدها، لماذا؟ لأنه لن يعود جلدها عليها، هل حصل أن عاد جلد شاة عليها؟ أبداً مستحيل! وكذلك هذا الرجل لما انسلخ من الدين انسلخ بنية ألا يعود إليه، قال عز وجل: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:١٧٥] فماذا حصل لما انسلخ؟ قال عز وجل: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:١٧٥] حين كان يعمل بآيات الله كان في حرز، ولم يكن للشيطان عليه سلطان، وما كان الشيطان يستطيع عليه؛ لأنه محفوظ بآيات الله، محفوظ بدين الله؛ لكن بمجرد أن تخلى عن حرزه، وترك حصنه، وانسلخ عن آيات ربه، تسلط عليه الشيطان، وهذا معنى قول الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:٩٩ - ١٠٠].

فإذا أردت أن تبقى في حصن حصين، وفي منعة من الشيطان الرجيم فاعمل بطاعة الله، إذ لا سلطان للشيطان على من أطاع الله، يقول الله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:٤٢] فسلطان الشيطان على من اتبعه؛ لكن من يتبع الله ويعبد الله لا سلطان للشيطان عليه، ولهذا حينما لعنه الله وطرده وقال له: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:١٢ - ١٨] أنت والذي وراءك في جهنم: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:١٩] إلى آخر الآية.

إذاً: متى يتبع الشيطانُ الإنسانَ؟! إذا تخلى عن طاعة الرحمن، أما إذا كان الإنسان ملازماً لطاعة الله فإنه في حصن وحماية ووقاية من الشيطان، وهذا معنى قول الله عز وجل في هذه الآية: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:١٧٥] فإذا أتبعه الشيطانُ ماذا يكون نتيجته؟! {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:١٧٥].

الذي يتبعه الشيطانُ هل يمكن أن يدله الشيطان على طريق الهداية؟! أم أنه يدله على طريق الغواية؟! يدله على طريق الغواية بدون شك، وما دام الشيطان معه فإنه يزيِّن له الباطل، ويزيِّن له الشر، ويكرِّه إليه الطاعات، ويكرِّه إليه العمل الصالح، ويزيِّن له كل شر، ويكرِّه إليه كل خير؛ لأنه غاوٍ {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:١٧٥].

ثم يقول عز وجل: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف:١٧٦] لو شاء الله تبارك وتعالى لَقَصَره وجعله مسلوب الإرادة، وصار آلياًَ؛ لكن الله أكرمه وأعطاه هذه القدرة على أن يسير في طريق الخير، فأخلد إلى الأرض {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:١٧٦] إلى شهواتها، ومُتَعِها، ولذائذها {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:١٧٦] ولم يتبع أمر مولاه، واتباع الهوى من أعظم ما يصدُّ عن دين الله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:٢٣].

قال عز وجل: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:١٧٦] ما هو اللهث؟ اللهث هو: إخراج اللسان من الفم عند العطش، وفي حالة التعب، فالكلب يخرج لسانه، إن حملت عليه بالضرب يخرج لسانه، وإن تركته ورحمته يخرج لسانه {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:١٧٦].