للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أبو بكر الصديق وحادثة الإسراء]

من الأوائل: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وسمي الصديق لأنه يصدق من غير تردد، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم إلا ودعوته فأخذ وفكر إلا أبا بكر) لا يعرف التردد، فما يقول الرسول شيئاً إلا وصدقه، وسمي بـ الصديق لكثرة تصديقه، ولقوة يقينه، وأطلق عليه ذلك اللقب بعد حادثة الإسراء؛ لأنه صدق بشيء لا يصدق إلا بالإيمان.

حادثة الإسراء كانت حادثة ذات منعطف خطير في حياة الدعوة؛ إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، أسري به ثم عرج به يقظة لا مناماً بجسده وروحه، هذا هو المحقق عند العلماء من أهل السنة، أنه أسري به جسداً وروحاً وليس رؤيا منامية، الله يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:١] والعبد يقتضي الروح والجسد، وما قال: أسرى بروح عبده وأسري به من أين؟ من مكة المكرمة، إلى أين؟ إلى المسجد الأقصى الأسير الذي نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يخلصه من أيدي اليهود.

والمسافة من مكة إلى الأقصى شهر بالقوافل وأسري به صلى الله عليه وسلم إليه في طرف ليل، وكان يمتطي البراق، والبراق: دابة فوق الحمار ودون الفرس، لكن خطوته عند منتهى بصره، مثل البرق، حتى وصل، وهناك صلى بالأنبياء ثم صعد في المعراج وعرج به إلى أن بلغ سدرة المنتهى، وفرضت عليه هناك الصلوات الخمس، ثم عاد وركب البراق ووصل مكة في نفس الليلة.

وحينما نحدث به اليوم يمكن أن نقبله؛ فقد ابتكرت من وسائل النقل ما يقارب هذه، بإمكان الواحد أن يذهب بالطائرة من جدة إلى الرياض أو من جدة إلى بيت المقدس ويعود في نفس الليلة وينام في داره.

لكن لو حدثنا بهذا قبل زمن، هل يمكن أن تصدق لو قيل لك: هناك حديدة طويلة يركب فيها أربعمائة من الرجال بعفشهم وعوائلهم وترتفع في الليل من الأرض وتصل إلى الرياض خلال ساعة، هل تصدق؟ والله لو ما ركبنا فيها ما صدقنا، فكيف يكون هذا الحديث كأنها مربوطة بحبل وتنظر في الليل وترى الجبل والسهل، لا تعلم عن شيء إلا وأنت قد وصلت، لكن هذا حصل، فلو حدث الناس في هذا الوقت بهذا الأمر يمكن يُقبل، لكن الناس في ذلك الوقت لا يعرفون من وسائل الاتصال والنقل إلا البعير والحصان والحمار والجمل، وهذه الوسائل البدائية التي تقطع الطريق شهراً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إني ذهبت وعدت في نفس الليلة، وليست الرحلة فقط في الأرض، بل قال: ثم إلى السماء، فلما أخبر الصحابة والناس في الصباح حصل نوع من الرجة، وسمع المشركون وقالوا: والله ما بقي إلا هذه، نقطعها شهراً ذهاباً وشهراً إياباً وأنت تأخذها في ليلة! ثم جاءوا يشككون الصحابة وكل واحد وقف، وجاءوا إلى أبي بكر الصديق وأرادوا أن يهزوه؛ لأن اهتزاز أبي بكر يعني هزة الجميع، وثبات أبي بكر يعني ثبات الجميع قالوا: أو ما سمعت ما يقول صاحبك؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: يقول: إنه أسري به البارحة من بيت أم أيمن في مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء حتى وصل السماء السابعة، ثم نزل وأصبح في بيت أم أيمن، قال: [إن كان قال ما قال فقد صدق] اللهم صلِّ على رسول الله.

إنها قضية تجرد، قضية تسليم العقل إذا وجد التعارض، ما دام قال الرسول الصادق إذاً صدق ولو لم يصدقه عقلي، فسمي من ذلك اليوم بـ (الصديق).

وحتى لا يهتز ذوو الإيمان الضعيف كان هناك دلائل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً ذهب إلى بيت المقدس ورجع، فقد جاء المشركون في عملية زعزعة وقالوا له: صف لنا بيت المقدس، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت رحلته قصيرة، ومهمته محدودة، صلى بالأنبياء وصعد، وما جلس يتفقد بيت المقدس يعني: أنتم الآن في هذا المجلس كل شهر وأنتم تحضرون، لو سألتكم: كم عدد الأعمدة في هذا المسجد؟ ربما لا تعلمون، وكذلك كم فيه نوافذ؟ كم فيه أبواب؟ ونحن شهود جالسون؛ لأن هذا لا يسترعي انتباهنا حتى نجلس نحدده، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء من أجل أن يكشف على المسجد، ويستعرض الأبواب والنوافذ والأعمدة، جاء ليؤدي رسالة وصعد، فقالوا له من باب الامتحان: صف لنا بيت المقدس، فالله عز وجل طوى له الأرض وكشف له بيت المقدس أمامه وهو في مكة، فجلس يصفه عموداً عموداً، واسطوانة اسطوانة، وباباً باباً، ونافذةً نافذةً، كأنما يراه، عامل المكان اختصر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يؤمنوا، بل قام أحدهم قال: عندما ذهبت في الليل هل رأيت قافلتنا الآتية من الشام؟ كيف أراها وأنا ذاهب في الليل؟! الذي في الليل لا يري الذي في الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم رأيتها، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان حمراوان، تأتيكم يوم كذا قبل صلاة المغرب وبعد العصر، ورأيتها في المكان الفلاني) كيف رآها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الله أوحى إليه في اللحظات التي كانت في ذاك المكان، ولما كانوا ينتظرون بالدقيقة والساعة إذا بالقافلة آتية والجمل أمامها، وسألوا الذي مع القافلة في تلك الليلة أين كنتم؟ قالوا: كنا في المكان الفلاني، الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل آمنوا؟! لا.

يقول الله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:١٤٦] لم تكن البراهين والدلائل غير كافية، بل لقد كانت كافية لكن الذي لا يريد أن يستمع كيف تفعل به؟ عندما تقول لشخص: هذا (ميكرفون) فيقول لك: لا، هذه سيارة حيرتني، هذا -يا أخي- (ميكرفون) وليست سيارة، فيقول: انظر هذا الكفر حقها وهذا فكيف تقنعه؟ فما ينبغي للإنسان أن يكابر، ولهذا سمي الكفار كفاراً؛ لأنهم يغالطون ويغطون الحقائق؛ فإن الكفر في اللغة: هو التغطية والستر، فالكافر يغطي الحقيقة ويكتمها وأبو بكر الصديق رضي الله عنه سُمي الصديق من يومه ذلك رضي الله عنه وأرضاه.