للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدروس المستفادة من مرحلة الدعوة السرية]

هناك -أيها الإخوة- بعض العظات والحكم والعبر التي نستخلصها من هذا المقطع من مرحلة الدعوة السرية: أولاً: إلهام الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل ربه بأن يبدأ الدعوة سراً، وذلك إرشاد له وإرشاد للدعاة من بعده، إلى وجوب الأخذ بالحيطة وممارسة الأسباب، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم مدعوم بقوة الله ولو بدأ الدعوة جهراً فإن الله سيحفظه، ولن ينالوا منه شيئاً، لكن لبيان منهج الإسلام في الأخذ بالأسباب والاعتماد على مسبب الأسباب، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه ناقة فقال: (يا رسول الله! أطلقها وأتوكل، أم أعقل وأتوكل؟ فقال له: بل أعقلها وتوكل) خذ بالسبب ثم توكل على الله عز وجل؛ لأن ترك الأسباب قدح في العقل، والاعتماد على الأسباب نقص في الدين، إذا اعتمدت على السبب فهذا نقص في الدين، وإذا تركت السبب فهو نقص في عقلك.

يأتي أحدهم ويقول لك: كل، فتقول: لا أريد أن آكل، لماذا؟ أكلت أو ما أكلت الحياة بيد الله، وأنا إذا أكلت لن يزيد عمري، وإذا ما أكلت لن أموت، نقول له: ستموت غصباً عنك؛ لماذا؟ لأن من سنن الله الكونية أن تأكل من أجل أن تعيش، أما إذا لم تأكل فستموت، أتريد أن يغير الله سننه من أجل خاطرك أنت؟! لا.

{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:٦٢] والله يخبرنا في القرآن أن عيسى عليه السلام يقول لأمه مريم عليها السلام، وهي في حالة المخاض: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:٢٥] كان يكفي أن تساقط الرطب من غير هز؛ لأن الذي أنبت الشجرة وأعطاها قادر على أن ينزلها من غير هز، لكن الأخذ بالأسباب من أجل أن تعمل هي، تهز النخلة فينزل الرطب.

والوحي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ الدعوة سراً، ففيه دليل على مشروعية الأخذ بالحيطة، وممارسة الأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل المفيدة، التي تعمل على إنجاح الدعوة، وعلى عدم الزج بها في مواجهات خاسرة وغير منتصرة، خصوصاً عند ضعف الدعوة.

فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته سراً، وهذا لا يخدش في إيمانه، فضلاً عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام.

العظة الثانية: يقول جمهور العلماء: إن المسلمين إذا كانوا في قلة من العدد أو ضعف من العدة، بحيث يغلب على ظنهم أنهم سيقتلون، من غير أن يكون هناك نكاية في أعدائهم، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس؛ لأن المصلحة المقابلة هي مصلحة حفظ الدين، وهي موهومة أو متوقعة أو منفية الوقوع، وهذا ما يقرره العلماء، وقد قرره الشيخ / العز بن عبد السلام يقول أحد العلماء في تعليقه على هذا القول: إنه من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد، فإنها في الواقع مصلحة دينية، إذ أن مصلحة الدين تقتضي أن تبقى أرواح المسلمين سليمة، لكي يتقدموا ويجاهدوا ويستمروا في الدعوة؛ لأن في هلاكهم إضراراً بالدين، وفسحاً للمجال أمام الكفرة ليقتحموا ما كان مسدوداً بوجود المسلمين، وهو بهذا يعني: أنه إذا عُرف أن المصلحة ليست في القتال؛ لأن المواجهة معروفة ومكشوفة لنا، إذ أن العدد قليل، والعدة غير كافية، وأن المواجهة ستقضي على المسلمين، إذاً لا داعي للمواجهة؛ لأن ذلك من مصلحة دين الله عز وجل؛ ليبقى في وجود المسلمين قانون يسمونه (قانون التدافع) وهو قول الله عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ} [البقرة:٢٥١]، فيدفع الكفر بالإسلام، فيبقى الكفر موجوداً والإسلام موجوداً، هؤلاء يعملون وهؤلاء يعملون، لكن إذا واجهت الكفر وليس عندك إمكانية للمواجهة، وقضى عليك، خلت الساحة للكفار، ولم يعد هناك شيء من التدافع الذي يرفع الفساد؛ لأن الله يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ} [البقرة:٢٥١] ما دام الخير يدفع الشر يحصل فيه أيضاً صلاح، لكن إذا خلا الجو للشر ظهر الفساد في البر والبحر بما تكسب أيدي الناس من الفساد والعياذ بالله! هذه هي المرحلة الأولى وهي الدعوة سراً.