للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فوائد ودروس من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم]

من هذا نقتبس -أيها الإخوة- بعض الفوائد، ومنها: إن الموقف السلبي لعشيرة النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وللعرب القرشيين بصفة عامة من الدعوة في هذه الفترة، فيه رد على من يحاول أن يصور هذا الدين وأن نجاحه كان نتيجة العصبية القومية، ويزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما كان يمثل بدعوته الدعوة القومية والعصبية، وهذا باطل؛ لأن بعض القوميين العرب حينما بدأت الدعوة القومية -لكن الحمد لله ماتت في مهدها في فترة من الفترات قبل حوالي ثلاثين أو أربعين سنة- نادى الناس بـ القومية العربية والاجتماع حول العروبة وترك القومية الدينية، وقالوا: نحن نبدأ حضارتنا من العرب، وضيعوا على المسلمين مجداً عظيماً هذا فيه رد؛ لأن موقف العرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، كان: الرفض والمحاربة والسلبية، ومع هذا انتصر دين الله عز وجل.

إذاً: في تباطؤ الناس عن دين الله، فيه دليل على قوة وتغلغل العادات والتقاليد في المجتمعات التي تعيش فيها ردحاً من الزمن، وهذا وضع يواجهه الدعاة.

يا أخي في الله! ليس من السهل أن تأتي على مجتمع تعارف على شيء من التقاليد والأعراف والعادات، وتريد أن يغيرها الناس بجرة قلم، لأن الناس تعودوا عليها واعتادوها، ولذا من الصعب أن يتركوها، ولذا تواجه أنت وعندك هذا الشعور وهذا الحس أنك تمارس عملاً عظيماً، وعندما يخبو صوت الدعوة المهتدية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن هذه العادات تنشط، لكن إذا بدأت الدعوة المهتدية بالهدي النبوي وبالنور الرباني وبالحكمة؛ فإن هذه العادات والتقاليد تختفي وتزول، لكن تحتاج القضية إلى وقت وإلى صبر، أما المواجهة بسرعة والتوقع للاستجابة الفورية فهذا غير وارد.

أيضاًَ من العبر في هذا المقطع بالذات: أن في خصوصية الأمر بإنذار العشيرة إشارة إلى درجة المسئولية بالدعوة، وأنها تتعلق بكل مسلم، خصوصاً الدعاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل المسئولية تجاه نفسه أولاً، لكونه مكلفاً بعبادة الله عز وجل، ثم تجاه أسرته وأهله لوصفه رب الأسرة والمسئول عنها، ثم تجاه أقاربه وعشيرته لكونه ملاصقاً لهم ومخالطاً لهم، وبينهم وبينه علاقات، وتربطه بهم روابط، فعليه مسئولية أعظم مما على الآخرين البعيدين عنهم، ويشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسئولية كل مسلم مكلف، إذ على المسلم أن يبدأ بنفسه، ثم ينتقل في الخطوة الثانية بمسئوليته تجاه أولاده وزوجته وبناته ووالديه.

وإن دعوة الوالدين تحتاج إلى نوع من اللين والرفق والدراية؛ إذ من الصعب أن يقبل الوالد من ولده لماذا؟ لأن الوالد يعرف الولد بمدى زمني بعيد، يعرفه وهو طفل يؤذي، ويعرفه وهو يدخل المدرسة ويمر بفترة زمنية، ثم يفاجأ به في لحظة من اللحظات وإذا به يوجهني ويعلمني الدين، ويدعوني إلى الإسلام، يقول لي: اتق الله! أعرف هذا اللّعاب من زمن! ولذلك لا يقبل الأب ويرفض ويقول: أنت تعلمني! وربما يضربه.

ولهذا انتبه! إذا أردت أن توجه نصيحة للوالد فلا توجهها من مكان التعالي والشعور بالأستاذية، أو أنك تعلم أباك وهو الجاهل، حتى لو كان عندك شهادة وأبوك لا يحمل أي شهادة فإنه يحتقرك؛ لأنه يعرفك وهو الذي جاء بك.

فعليك أن تعطيه الدعوة لكن تقدمها في قالب مقبول محبوب، تقول: يا أبتي! أنت أعرف مني، وأفضل مني وأنا أستحي وأقول: عيب علي إن أعلمك وأقول لك هذا الكلام، لكن من باب الفائدة، وهذه الفائدة أنا ما أخذتها إلا منك إذا قلت له هذا الكلام، فسيقول: نعم يا ولدي جزاك الله خيراً! ويقول: لا يا ولدي بارك الله فيك، أنا يعجبني هذا الكلام، أنا أكون مسروراً عندما تأتيني نصيحة من ولدي لماذا؟ لأنك أعدت له مكانته وأشعرته بكرامته، لكن عندما تجرده من الكرامة وتشعره بأنك أحسن منه، وأنه جاهل، وتقول له: أنت لم تعرف شيئاً، فيقول: اذهب أنت ودراستك، أنت أصلك ما تفهم، ويغضب ويتصدى لك ويقف في وجهك هذا الأب وكذلك الأم.

إذاً: القضية قضية دقيقة جداً، لابد أن يكون فيها إحساس، لا تخرج الكلمة إلا وأنت تعرف أن لها مكاناً في قلوبهم وإلا فقف؛ لأنه ربما أفضى تعليمك لهم بأسلوب غير صحيح إلى حملهم على أن يتخذوا موقفاً، وربما يخرجون به من الدين وأنت لا تدري، وتكون السبب أنت، ولنا في إبراهيم عليه السلام أعظم الأثر والاعتبار وهو يقول لأبيه: يا أبت! أربع مرات {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ} [مريم:٤٥] {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ} [مريم:٤٤] {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ} [مريم:٤٣] انظروا كيف الأدب في العبارة! قال: إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، أي: إن عندك علماً لكن ما أتاك العلم الذي عندي، ما قال: أنت جاهل وما عندك علم، بل قال: ما لم يأتك، وفي العبارة هذه إيحاء إلى أنه جاءك علم لكن الذي جاءني ليس عندك، بمعنى: أنا عندي علم وأنت عندك علم يمكن أكثر من الذي عندي فاتبعني، بعد ذلك {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم:٤٣] وفي كلمة: "يا أبتِ" نوع من التلطف والترقق وحسن العبارة حتى يدخل في قلب أبيه.

فابدأ -يا أخي- بأبيك وبأمك، وأعظم مجال تستطيع أن تدخل به قلب أمك وأبيك الخدمة والعطاء والبذل؛ لأن الحياة مأخوذة على المعاوضة، فأعط أباك خدمة في البيت وتواجد باستمرار في البيت، وبراً وطاعةً، ولا أزال أذكر قصة أكررها للعظة والعبرة وهي: ملخص القصة: أنه جاءني شاب وأنا في أبها يشكو لي عناد أمه، ووقوفها في وجه الدعوة، فسألته: من يخدمكم في البيت؟ من يقوم بالطبخ والغسيل والكوي؟ قال: أمي، قلت: أريد أن أوصيك وإن شاء الله تنفذ وصيتي، قال: نعم.

قلت: أولاً: لا تدعها إلى شيء من الدين أو الحجاب، فإن الحجاب ليست متمسكة به؛ لأنها لا تعرفه، فقلت له: لا تدعها إلى الحجاب ولا إلى غيره واعمل بوصيتي، قال: حسناً ماذا أصنع؟ قلت: إذا أكلتم وتغديتم وقمتم من السفرة لا تغسل وتذهب لتنام، وإنما اجلس أنت واجمع الصحون ولف السفرة واذهب بها إلى المطبخ، واغسل الصحون أنت بدل أمك، سترفض هي، لكن قل لها: والله ما أغسلهن إلا أنا، فإذا قمت في الصباح قبل أن تذهب الكلية نظف غرفتك، ونظم فراشك، ونظم السرير والبطانية حقك، وراجع دروسك واخرج من الغرفة وهي مرتبة، إذا رأيت أمك تكنس بالمكنسة الكهربائية فقل لها: والله ما أكنس إلا أنا، أريد أن أتعلم نوعاً من الخدمة، واستمر على هذا، ثم أعلمني بالنتيجة بعد ذلك.

يخبرني فيما بعد ويقول: ذهبت إليها، ومن يوم تغدوا كان من قبل يتغدى ثم يغسل ويذهب لينام، لكن هذه المرة جلس حتى قاموا كلهم وهو جالس، فقالت له أمه: قم، قال: لا، أنا اليوم أريد أن أتعلم كيف أغسل الصحون؛ لأني غداً سأصبح عزوبياً، غداً أسافر وأحتاج أن أتعلم، وهذا نوع من الرياضة كوني أغسل الصحون، وأتحرك أحسن من النوم، قالت: لا يا ولدي، الصحون لا يغسلها الرجال، لا يغسلها إلا الحريم، قال: لا والله ما أغسلها إلا أنا، وحمل الصحون ودخل المطبخ وبدأ يغسلها وينظفها، وبعد ذلك في الصباح نظف غرفته، ثم رآها تكنس فقام يكنس مكانها، رآها تكوي يكوي معها ويخدمها، فأحبته لهذا الخلق فأصبح عينها، وبعد ذلك تريد رضاه بأي وسيلة، كان إذا ذهب يصلي يقول لإخوانه: انهضوا صلوا، تقول أمه: ما عليك منهم، صلِ وإلا اجلس، مالك دخل بهم، لما صار يغسل الصحون ويقوم يصلي من أجل تجامله تقول لإخوانه: قوموا صلوا مع أخيكم، هو يصلي وأنتم لا تصلون، من باب المجاملة مرة ومرتين واستمر، وأخيراً قالت له يوماً من الأيام: يا ولدي! قال: نعم.

قالت: ما رأيك إني أستحي من الرجال والناس يأتون إلينا، ما رأيك أتغطى؟ قال: هذا أمر يخصك، قالت: لا والله إني أعرف أنه يؤذيك وأنك غير راضٍ لكنك تستحي، الله يديمك، لكن أعاهدك ألا أكشف على أحد.

الله أكبر! وبعد ذلك صارت تدعو له وتقول: الحمد لله الذي هدى ولدي كي يغسل الصحون، هذه هي الهداية التي عندها، قبل يوم لم يكن يغسل الصحون ولم يكن مهتدياً، لكن لما أصبح باراً ويغسل الصحون عندها هو المهتدي.

فكذلك -يا إخواني- إذا أردنا أن ندعو الآباء والأمهات يجب أن نخدمهم؛ لأننا إذا خدمناهم أخذنا منهم الحب، وبادلونا بالشعور، وفرحوا بالدعوة التي ربتنا هذه التربية، لكن بعض الشباب ما أن يهتدي حتى يقلب ويعكس المرآة لأهله، ولم يعودوا يرونه أبداً أين أنت؟ عندي محاضرة عندي درس مع الإخوة عندي معسكر عندي مخيم خذنا إلى المستشفى، قال: أنا مشغول أعطنا حاجات، قال: عندي زميلي ماذا سيقول أبوك؟ سيقول: الله يقلعه، والله من يوم اهتدى ما نحصل منه على مصلحة.

فيكره الدعوة ويكره الدين.

لكن لو أنه إذا اهتدى الولد لصق بأبيه وخدمه لقال: الحمد لله، الله يوفق الولد، ما رأينا بركته ولا مصلحته إلا من يوم أن هداه الله، فيحب أن يهتدي جميع أولاده.

فهذا -أيها الإخوة- ضمن مسئولية الشاب تجاه والده ووالدته، وتجاه أسرته القريبة، وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل الدعوة، وهي الدعوة جهراً، لكن في محيط العشيرة والأقربين.

ونكتفي بهذا، وسوف نواصل -إن شاء الله- الدروس المباركة، ولكن بعد انتهاء العطلة الصيفية، فسوف تتوقف هذه الدروس خلال شهر اثنين وثلاثة وأربعة لعدم وجودي في المنطقة، وسأكون في أبها -إن شاء الله- خلال فترة الصيف، وستبدأ هذه الدروس -إذا أحيانا الله جميعاً- في نهاية الشهر الخامس بإذن الله عز وجل.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجنبنا جميعاً كل شر، وأن يرزقنا العظة والاعتبار بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا ودعاتنا وجميع شبابنا وجميع المسلمين إلى خدمة هذا الدين، والحرص عليه والدعوة إليه، والتمسك به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.