للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اللاهثون وراء السعادة من طريق الماديات]

لقد ظن بعض الناس أن السعادة في المال فقطعوا مراحل أعمارهم بتجميعه حتى حصلوا عليه, فلما حصلوا عليه كان المال سبباً لشقائهم, إذ المال وحده لا يكفي لإسعاد الإنسان, وإنما هو وسيلة من الوسائل التي تحقق السعادة, لكن إذا جعله الإنسان غاية وحصل عليه وجد الشقاء بعينه في المال.

ابنة المليونير اليوناني التي ورثت خمسة آلاف مليون من أبيها -وهذا المبلغ يهز الدنيا- ربما يحلم الإنسان باقتنائه، وربما يموت ملايين البشر ولا يحصلون عليه, ولكن هذه ترث في صفقة واحدة بعد موت والدها خمسة آلاف مليون, وتمتلك جزراً كاملة وسفناً وطائرات وعمارات وشركات، ومع هذا لم تحقق لها هذه الثروة السعادة, فقد تزوجت بإنسان روسي وعاشت معه في غرفتين قبل سقوط الاتحاد السوفييتي -لأن الأنظمة الشيوعية لم تكن تسمح بأكثر من غرفتين- وكانت هي التي تطبخ الطعام بنفسها, وسئلت فقيل لها: كيف تعيشين هذه الحياة؟ قالت: أبحث عن السعادة.

وظلت سنة كاملة تبحث عن السعادة فلم تجدها فطلقته؛ لأنها اشترطت يوم أن تزوجت أن تطلقه, وتزوجت بآخر فرنسي وتزوجت بأمريكي وتزوجت من كل النوعيات لتبحث عن السعادة ولم تجدها, وأخيراً وجدت مقتولة في بيتها! قيل: إنها منتحرة, لم تغن عنها الملايين شيئاً ولم تحقق لها الملايين سعادة, وهذا مقرر في كتاب الله؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} [التوبة:٥٥] بعض الناس يتصور العذاب بالمال في الآخرة، لا.

ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا والآخرة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:٥٥].

سبحان الله! المال الذي هو أمل كل واحد، والذي هو رغبة كل إنسان يتحول عذاباً في الدنيا؟ نعم.

عذاب في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كيف يكون المال سبباً في العذاب في الحياة الدنيا؟

الجواب

من ثلاثة أمور: الأمر الأول: طريقة تحصيله: لا يأتي المال بالمجان, إذ لا بد من تعب وسهر وتفكير, ولا بد من مخاطرات وسفرات, والذي ينام لا يأتيه شيء, لكن ذلك الذي يشتغل ليل نهار هو الذي يرزق بالمال.

الأمر الثاني: طريقة تشغيله: وبعدما يأتيه المال يأتيه هم وتعب في حفظه وتشغيله واستثماره وتحريكه.

الأمر الثالث: القلق والحزن عند ضياعه: ثم يأتيه هم آخر عند مفارقته والحزن والقلق عند ضياعه, فالمال بطبيعته عذاب للإنسان, وليس طريقاً للسعادة.

وبعضهم ظن أن السعادة في الرتب والمناصب واحتلال أرفع الدرجات، فيحاول أن يحصل على أحسن المؤهلات, فلما وصلوا إليها لم تتحقق لهم السعادة, ولست في هذه العجالة بحاجة إلى التدليل, فالذي ذاقها أو عرفها يعرف أنها ليست لإسعاده.

وبعضهم ظن السعادة أن يرتمي في أحضان الغانيات ويستجيب لنداء النزوات والشهوات ويعيش حياة العاطفة؛ حياة الفن, والرقص, واللعب, والحب, والغرام, ظناً منه أن هذه هي السعادة.

ولكنها في الحقيقة بعينها كانت عنوان الشقاء, فإن سألنا أهل الاختصاص فإنهم يجيبون بأصوات مرتفعة، فرائدة الغناء العربي تقول في إحدى أغانيها: (الحب عذاب) والعندليب الأسمر يقول: (حبك نار، وقربك نار، وبعدك نار، نار يا حبيبه نار) يعني هذا أقسى ما في الحياة من عذاب، بل توعد الله مثل هؤلاء بالعذاب في الآخرة بالنار ولقد حصل عليه في الدنيا قبل أن يلقاه, وهذا معنى قول الشاعر:

فما في الأرض أشقى من محب وإن ظن الهوى حلو المذاق

تراه باكياً في كل حين مخافة لوعة أو لاشتياق

فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا خوف الفراق

إذا كانت الحبيبة بعيدة يبكي؛ لأنها بعيدة عنه, وهو متشوق إليها، وإذا قربت منه يبكي توقعاً منه إنها سوف تفارقه.

فتسخن عينه عن التداني وتسخن عينه خوف الفراق

فالقضية عذاب من أولها إلى آخرها, وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم العظيم الداء والدواء الذي أدعو الشباب إلى اقتنائه وقراءته؛ لأن فيه جواباً على كل التساؤلات التي في النفس البشرية حول هذا الأمر من العاطفة والحب، إني أظن ألا أحد من الناس إلا وعنده هذا المرض -مرض الحب- والحب طبعاً عاطفة في النفس البشرية التي خلقها الله, لكنه جعلها لشيء آخر غير ما يفهمه الناس, فالحب حب الله، وحب رسوله، والقرآن، والجنة، والدين هذا هو الحب.

أذكر أن شاباً من شباب الصحوة وهو الآن يعمل دكتوراً في الجامعة في كلية اللغة في أبها، ويوم أن كان في المدرسة الثانوية كان عنده مدرس علم النفس، وكان دائماً يتكلم عن الجنس والحب والغرام، ويفسر الحياة كلها على هذا المنوال, لأنه من تلاميذ فرويد , وفرويد هذا أنجس موجود على وجه الأرض؛ رجل خبيث مغمور في الجنس من رأسه إلى قدمه، لأن علماء التربية والنفس أكثرهم يأخذون هذه الأفكار والمناحي من تصرفات النفس البشرية بعيداً عن الهدي الذي يهذب النفس البشرية، فإن أعظم من يتكلم عنها صانعها وهو الله جل وعلا, فالجهاز أحسن من يتكلم عنه ويصفه هي الشركة التي صنعته, لكن لو أتينا بصاحب البنشر وقلنا: أعلمنا بأسرار هذا الجهاز, فإنه لا يعرف أسراره, ولكن يقول: لا يوجد زيت, ولا شحم, ولا هواء هذا عمله, وكذلك الذي يتحدث عن النفس الإنسانية وهو لا يعرفها سيكون حديثه كلام فارغ وهراء, وقد ابتدأهم ذلك الأول الذي قال: إن الإنسان قرد، اسمه " دارون " وهو قرد وأبوه قرد ابن قرد.

والدارونية سقطت، وأصبحت هناك نظريات جديدة اسمها: الدارونية الحديثة -يعني بعيدة كل البعد عن نظرية دارون - لأن الأبحاث والآثار أثبتت أن الإنسان إنسان منذ خلقه الله، وأنه لم يتطور؛ وهذا البحث بعيد كل البعد عن نظرية دارون التي قال فيها: إن الإنسان كان خلية، ثم تطور وتطور إلى أن أصبح إنساناً, ولما سئل: ما دامت القضية قضية تطور فلماذا بقي الإنسان إنساناً ولم يتطور؟ قال: سيتطور, قالوا: متى؟ قال: بعد خمسة آلاف مليون سنة! كبّر الكذبة حتى لا يدركها أحد, قالوا: ما الذي يحدث بعد هذا؟ قال: يصير فأراً -يقول: يتطور الإنسان حتى يصير فأراً بعد هذا- طبعاً سقطت هذه النظرية وقامت نظريات أخرى كنظرية ماريا منتسوني , ونظرية فروبل في اللعب, ونظرية المشروع الدونديوي, ونظرية دوركايم في العقل الجمعي, ونظرية ماركس التي سقطت في التطبيق العملي، وهي نظرية: لا إله والحياة مادة.

نظرية فرويد هذا تعني أن الحياة كلها جنس, حتى يفسر الطفل، يقول: عندما يرضع ثدي أمه فإنه يمارس عملية الجنس -والعياذ بالله- وهذا المدرس كان من تلامذة فرويد، فدائماً يدغدغ مشاعر التلاميذ وهم في سن المراهقة -ثالث ثانوي- ويتكلم معهم عن الجنس، وتمر نصف ساعة أو ساعة كلها في الجنس, فيحبه الطلاب, فأحد الطلاب قال: يا أستاذ قال: نعم.

قال: لماذا الملتزمون لا يحبون -وكان يوجد أربعة من الطلاب في الفصل ملتزمين-؟ لأن بقية الطلاب كل واحد منهم له محبوبة, إلا هؤلاء الأربعة الملتزمين لا يحبون, قال: يا أستاذ لماذا المطاوعة لا يحبون؟ فقال الأستاذ الشيطان الرجيم: أولئك قوم مات في قلوبهم الوجدان, يقول: الوجدان في قلوب هؤلاء ميت, ومعقدون مكبوتون -يعني في الدين- وليس عندهم وجدان حي, فقام الشاب المبارك -الذي أسأل الله أن يوفقه وهو كان عميد كلية اللغة والآن مدرس في الكلية- وقف وقال: لا يا أستاذ.

نحن لم يمت الوجدان في قلوبنا, نحن نحب ولكننا نحب الله ورسوله والدار الآخرة, وأنتم تحبون ولكنكم تحبون ما يحب الحمار, ماذا يحب الحمار؟ يحب هذا الشيء, أي: إذا رأى أنثى رفع مسامعه وجرى وراءها، هذا عمله، وهؤلاء يعيشون حياة البهائم كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:٤٤].

فالسعادة -أيها الإخوة- ليست في الحب, ولا في الاستجابة لنداء الشهوة والنزوة.