للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإيمان بالقضاء والقدر]

ومن أسباب إيجاد السعادة عند الإنسان: الإيمان بالقضاء والقدر.

والقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان وهو: سر الله في خلقه، والخوض فيه يعرض الإنسان لخطورة الوقوع في إحدى فئتين ضالتين وهما: الجبرية أو القدرية؛ أما الجبرية فقد سلبوا العبد فعله, وأسندوا فعل العبد لربه، وقالوا: العبد مجبور, فإذا زنا قالوا: مجبور؛ لأن الله كتب عليه فعلها, وإذا سرق قالوا: مجبور؛ لأنه ليس إلا كالسعفة في مهب الريح, فجعلوا العبد آلة ليس لها أي تصرف.

وقابلتهم فرقة أخرى -والمذاهب والنحل كلها ردود فعل؛ لأن الابتعاد عن الكتاب والسنة يفعل ردود فعل للتصرفات المقابلة- وهم القدرية الذين سلبوا الرب فعله وأسندوا الفعل كله للعبد وجعلوا العبد هو الذي يخلق فعله وليس لله أي شأن ولا إرادة ولا مشيئة في فعل العبد, وكلا الأمرين باطل.

وأهل السنة والجماعة هدوا إلى الحق، وهو: أن للعبد مشيئة وللرب مشيئة, ولكن مشيئة العبد داخلة ضمن مشيئة الله, والله تعالى يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠] وأن العبد مسئول عن تصرفاته, إذ لا يمكن أن يحاسبه الله عن غيره وهو غير مسئول عنه, فأنت نفسك لو جئت على ولدك وقد كسر جهازاً فإنك تعاقبه, ولكن لو أن الجهاز وقع من نفسه والولد واقف عنده ولم يلمسه, أتعاقب الولد؛ لأنه كان واقفاً عند الجهاز؟ ولو عاقبته فسوف يقول: لماذا تضربني؟ أنا لم ألمسه، فهو الذي سقط فجأة, وحينئذٍ لا تستطيع أن تعاقبه؛ لأنك تعرف أنه لم يذنب, وكذلك الله سبحانه وتعالى, أيريد الناس أن يكون الله ظالماً؟! ينزهون أنفسهم عن الظلم ويسندونه إلى الله! ويقولون: إن الله يعذب بغير اختيار من الإنسان! واعتقادهم هذا خطأ.

لأن الله إذا سلب القدرة أسقط التكليف, فإذا احتلم الإنسان في رمضان وهو يقظان، أي: مارس عملية إخراج المني بنفسه، ما حكم صيامه؟ إذا أخرج المني عامداً فسد صومه, لكن لو نام واحتلم وخرج المني في حال نومه لا يفسد لأن الأول بتعمده فسد صيامه وأثم, وذاك تم بغير اختياره فصيامه صحيح وعليه أن يغتسل ويصلي ولا شيء عليه.

والصلاة فرضها الله، ومن أركانها القيام ولكن عندما تكون مريضاً، من الذي أمرضك؟ حينها يقول الله تعالى: صل قاعداً, وكذلك في كل التكاليف.

فالإيمان بالقضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب المقادير، وقدر الأمور في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق، هذا هو التقدير, والقضاء هو الذي يتم الآن في عالم الواقع.

ونضرب مثلاً ولله المثل الأعلى: إذا أراد مهندس أن يبني عمارة فإنه لا يبنيها عشوائياً بل لا بد أن يصمم لها مخططاً -ولله المثل الأعلى- وهذا من باب تقريب المعنى, وكذلك لما أراد الله خلق الكون والحياة وضع له تقديراً -أي: مخططاً- ثم بعد ذلك يتم التنفيذ, ولكن هذا العلم الإلهي كما يسمونه العلماء: سابق لا سائق, أي: أن الله علم أن (زيداً) من الناس وأنه سوف يخلق وأن هذا المخلوق اسمه زيد، وسوف يبلغ سن التكليف وتصله أوامر الشرع فيستجيب لها باختياره، ويهتدي ويلتزم ويتمسك فتكون نهايته الجنة، فيكتب أنه سعيد ومن أهل الجنة.

فهذا سبق علم لا سوق, أي: ما ساقه الله سوقاً بحيث نقول: ليس له اختيار, بل كان عنده اختيار ويقدر أن يكون فاسداً، وكذلك يقدر أن يكون مجرماً، لكنه اختار طريق الهداية.

وكذلك علم الله أن (عمراً) من الناس، وأنه سيخلق ويبلغ سن التكليف، ويسير في طريق الانحراف والجريمة والكفر والفساد، ثم يموت على هذا، فعلم الله أن هذا سيكون فكتب عليه الشقاء بحسب سابق علمه.

هل يوجد أحد من البشرية الآن في الدنيا يعلم ماذا سيحدث غداً؟ لا.

لكن الله يعلم ما سيحدث غداً؛ لأن الله إذا كان لا يعلم ما يكون غداً فكيف يكون رباً وهو لا يعلم؟ جل جلاله وحاشاه! ولذلك من صفاته تعالى أنه عليم وأنه علام الغيوب, وأنه يعلم ما سيكون إلى يوم القيامة, وأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى, وأنه أيضاً يعلم السر وأخفى, السر: الذي في قلبك يعلمه الله, أخفى: الذي سوف تسره وأنت لا تعلمه فإن الله يعلمه الآن, إذ لا يغيب عن علمه شيء: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩] فالله يعلم أن فلاناً سيكون فاسداً وكتب عليه أنه سيكون شقياً لا سوقاً وإنما سبق علم وصفة كمال في الرب سبحانه وتعالى.

فالإيمان بالقضاء والقدر يشعرك بالأمن والراحة، لماذا؟ لأنك وأنت تعيش في هذه الحياة تكون عرضة للإصابة بأشياء لا ترضيك؛ إما بموت حبيب، أو بمرض قريب، أو بمصيبة، أو بكارثة، أو بحادث، فإذا عرفت أن هذا الشيء مكتوب, وأن الله قدره, وأن الله سيثيبك عليه إن صبرت وتلقيت هذه المصيبة والكارثة بصدر رحب، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم اجبرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها, فسينزل الله على قلبك طمأنينة ويمنحك السكينة، وتتحول هذه المحنة في حقك إلى منحة, لماذا؟ لأنك استعضت الله فيها, وجعلت عوضك عند الله منها, وفي نفس الوقت ادخرت ثوابها؛ لأن الله لا يظلم مثقال ذرة, فإذا أصابك بمصيبة فإنما ليرفع درجتك أو ليكفر خطيئتك, أو ليخفي لك من الثواب ما لا يعلمه إلا هو.

ولهذا ورد في الحديث أن أصحاب المصائب والبلايا في الدنيا يأتون يوم القيامة فيجدون حسنات كأمثال الجبال، فيقولون: يا ربنا! بم هذه الحسنات التي ما عملناها؟ فيقال: بالبلاء الذي تعرضتم به في الدنيا, فيتمنى أصحاب العافية أنهم عاشوا في غير عافية, فالعافية ذهبت، وبقي أجر أصحاب البلاء, وهذا يأتي -أيها الإخوة- عن طريق الإيمان بالقضاء والقدر, فإنك تجد الذي عنده إيمان بالقضاء والقدر لا يتحرك ولا يضجر ولا يجزع مهما جاءه من خبر: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢] * {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:٢٣].