للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقابلة السيئة بالحسنة]

ومن أسباب السعادة: مقابلة السيئة من الناس بالحسنى.

وهذه من أعظم أسباب السعادة وهو: معالجة الأمور بالهدوء, وعدم الاندفاع، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة) أي: ليس الشجاع الذي ينفعل ويندفع ويتصرف تصرفات سريعة بدون نظر، وإنما هذا أجبن الناس (إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب) لأنك حينما تغضب ستكون تصرفاتك دائماً غير مسئولة وغير معقولة ويترتب عليها مشاكل, فإذا مسكتها سلمت, لكن إذا اندفعت وراءها ندمت, وقد علمنا صلى الله عليه وسلم في سنته أشياء كثيرة، منها: ١/ جاءه الأعرابي وبال في المسجد وهذا عمل ليس بهين, ولو رأيناه الآن لقطعناه قطعة قطعة والصحابة كذلك، قالوا: لماذا تأتي لتنجس المسجد؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سمعهم ينتهرونه أسكتهم، وترك الرجل حتى انتهى, ولما انتهى دعاه والصحابة قد أرادوا الفتك به وضربه بالسيوف, قال: (يا أخا العرب! إن المساجد لم تبن لهذا) يقول: هذه ليست أماكن الوساخة والنجاسة، وإنما بنيت لذكر الله وعبادته، فإذا أردت أن تصنع شيئاً فاذهب إلى مكان آخر, ثم دعا بذنوب من ماء وصبه على بول الأعرابي وانتهت المسألة, والأعرابي هذا المسكين، قال: (اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا)، يقول: هؤلاء لا تغفر لهم؛ لأنهم أرادوا قتلي! انظر! كيف حوله صلى الله عليه وسلم من إنسان جاهل إلى إنسان يحبه ويدعو له, ويخصه بالدعاء من بين الناس, ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم تركهم في نهره وضربه، ما الذي سيحصل؟ أولاً: فبدلاً من أن يكون البول في نقطة فسيجعله في المسجد كله؛ لأنهم سيطاردونه والأعرابي لن يتوقف عن البول.

ثانياً: سيسببون له مرضاً؛ لأن الإنسان إذا أخرج البول ثم حبسه يحصل عنده اختلال في المثانة, وبعد ذلك يسبب كراهية له وللصحابة؛ لأن الرجل سيقول: أهذا دين؟ يضربونني من أول ما أتيت؟! وربما ارتد إلى دينه ولا يسلم, فالهدوء في علاج القضايا هو أسلم طريقة.

٢/ جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسترد ديناً عنده، وقال: إنكم يا بني عبد مناف قوم مطل -أي: تماطلون في القضاء- فقام عمر فأراد أن يقطع رقبته؛ لأنه ما سب الرسول، بل سب نسب الرسول كله, قال: (لا يا عمر! كان الأولى بك أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن الطلب) ثم أعطاه وتركه يمشي.

٣/ كان الخليفة عمر بن عبد العزيز يمشي في الطريق، ومن غير قصد دق أحد المارة وهو يمشي, ولم يعلم الرجل أنه أمير المؤمنين، قال: أأنت أعمى؟ قال: لا.

فأخذ العسكري الذي معه وسل السيف يريد قطع رأسه, قال: لماذا؟ قال: تكلم عليك, قال: لا.

وإنما سألني: أنت أعمى؟ فقلت له: لا.

لست بأعمى, وانتهت المسألة, والله تعالى يقول: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] * {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٥].

وأذكر قصة وقد ذكرتها في مناسبة ولكن نعيدها اليوم؛ لأنها حصلت في جدة: كنت في مراجعة إحدى السفارات فدخلت في شارع، وهذا الشارع ليس له منفذ -يعني مقفول- فمشيت بالسيارة حتى وصلت إلى النهاية، ولا أستطيع أن أدور بالسيارة لضيق الطريق فرجعت على الوراء من أجل أن أخلص من هذه المشكلة, ثم جاء شخص صاحب سيارة ورآني وأنا أرجع على الوراء والإضاءة مسرجة، وكان من المفروض أن ينتظرني حتى أرجع, لكن أنا أرجع وهو جاء من خلفي, فأخذ يؤشر لي أن أمشي للأمام -كأن بيته في الأمام- وكان غاضباً فالساعة (٢ ونصف) نهاية الدوام، وهو جائع أيضاً, فأنا نظرت وقد أخطأ علي ولا شك؛ لأنه لما رآني أرجع على الخلف كان من المفروض أن ينتظرني حتى أخرج, حينها لم أجد خياراً إلا أن أجنب له حتى يمشي, وكنت أتوقع أن يقابل هذا التصرف مني بقوله: شكراً؛ لأني عملت معه تصرفاً لائقاً, لكن ماذا حصل؟ جاء الرجل حتى حاذاني وأرخى الزجاج ونظر إليّ وقال: أنت لا تفهم يا قليل الحياء وسبني وسب الأب والجد -يعني (كلام أقذع من كل قذيعة) - حقيقة اشتعلت من الغضب! ولكن رفعت نفسي قليلاً وقلت: لا.

أدفع بالتي هي أحسن, فلما انتهى قلت له: أقول لك, قال: نعم.

قلت: أسأل الله أن يدخلك الجنة وينجيك من النار! يعلم الله -أيها الإخوة- أن هذه الكلمة أحدثت فيه هزة لكأني صببت عليه ماء, فلقد كان يتكلم وعيونه بارزة، ووجهه محمر، وعروقه منتفخة من الغضب, ولكن عندما قلت له الكلمة هذه برد, وأطفأ السيارة ونزل إليَّ وسلم علي يدي ورأسي وهو يقول: من أين أتيت؟ قلت: جئت من مكة ولي معاملة هنا وأرجع إلى مكة , قال: جزاك الله خيراً, يا أخي! أنا أسبك وأشتمك وأنت ترد علي بهذا الرد؟ قلت: ماذا أفعل؟ كان من المفروض أن أجنب لك من أجل أن تمشي، ولكن أخطأت في الرجوع! فأنا آسف لأني أخطأت! قال: لا والله ما أخطأت, بل أنا المخطئ، فقد كنت مهموماً وعندي مشكلة في العمل, ثم جئت ووجدتك أمامي، أنا آسف يا شيخ! ويقول: الاسم الكريم؟ قلت: فلان, قال: هل من الممكن أن تعطيني العنوان؟ قلت: تفضل, قال: تتغدى معي اليوم؟! فبدلاً من أن يضاربني يدعوني! فذكرت قول الله عز وجل: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] فسلمت من شره, لكن ما رأيكم لو نزلت عليه وضاربته, طبعاً هو رجل مثلي ربما يضربني أو أضربه, وربما يقتلني أو أقتله, حينها قد يبيت أحدنا في السجن والآخر في القبر, أو يكون كلانا في القبور من أجل ماذا؟! لكن بكلمة واحدة هدأت المشكلة, ولهذا يقول الشافعي رحمه الله في بعض أبياته:

لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات

إني أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات

وأملأ الوجه بشراً حين مقدمه كأنما قد حشا قلبي موداتي

والإمام الشافعي كان جالساً في يوم من الأيام في حلقة من حلقات العلم فدخل عليه رجل أحمق يسبه ويشتمه، فما رد عليه بكلمة واحدة, فلما انتهى، قالوا له: يرحمك الله يا إمام! ألا دافعت عن نفسك؟ قال لهم ثلاثة أبيات:

قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح

والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وفيه أيضاً لصون العرض إصلاح

أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يخسى لعمري وهو نباح

الكل يخاف من الأسد وهو صامت, والكلب يرجم وهو ينبح, فهل الكلام والنباح دليل على أفضلية صاحبه؟ لا.

الأفضلية في الدفع بالتي هي أحسن، هكذا علمنا الإسلام وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي من الحلم والأخلاق بأعلى قدر, حتى قال لـ ابن عبد قيس: (إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة) الحلم: الصبر على الناس, والأناة: عدم الاستعجال في اتخاذ القرار.