للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمران يحددان للإنسان الغاية من خلقه]

إن الإنسان لا معنى لوجوده، ولا قيمة له ما لم يفهم أمرين رئيسين، فإذا فهمهما تحدد سيره، واستقام خطوه على درب الحياة، هذين الأمرين هما: الأمر الأول: أن يعرف من هو.

والأمر الثاني: أن يعرف لماذا خلق.

إذا فهم وعرف هذين الأمرين فإنه بلا شك تتغير نظرته إلى الحياة، ويتغير منهجه، ويعرف أنه مخلوق مميز، يقول الشاعر في الإنسان:

دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر

وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

الإنسان مخلوق مميز بنص القرآن، يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٤] خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأنزل عليه كتبه، وبعث إليه برسله، وهيأ له جنته إن أطاعه، وتوعده بناره إن عصاه.

هذه وظيفة الإنسان، لا يمكن أبداً أن يعرفها إلا من خلال معرفة الأمرين اللذين سوف نذكرهما إن شاء الله: من أنت أيها الإنسان؟ والذي يؤسف له -أيتها الأخوات- أن الإنسان رغم تطوره وثورة المعلومات التي يوصف بها هذا العصر، ورغم العلم والتكنولوجيا، وغزو الفضاء، وتفجير الذرة، وتطويع المادة رغم كل هذه العلوم إلى الآن لا يعرف نفسه! صحيح أنه يعرف الكائن الجسدي، وهذا ليس الإنسان فقط، فالكائن الجسدي جزء واحد بسيط من مكونات الإنسان، لكن البشرية اليوم لا تعرف إلا هذا الكائن، تعرف الهيكل العظمي المربط بتلك الأعصاب، والمغطى بتلك اللحوم والعضلات، الذي تجري بداخله تلك العروق، ومركبة فيها تلك الأجهزة: سمعي، وبصري، وهضمي، وتنفسي، وتناسلي، وعظمي كل هذه الأجهزة! هذا هو الإنسان في نظر الناس الآن، وهل هذا هو الإنسان؟ لا.

هذا جزء من الإنسان، وهذا الجزء لا يتعلق به مدح ولا ذم، ولهذا لم يأت في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله مدح الناس بناءً على أجسامهم، بل ذم الناس إذا نظروا إلى هذا المعيار أو هذا المقياس، قال عز وجل في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:٤] أجسام لكنها خشب؛ نظراً لأن قلوبهم خاوية من الإيمان، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

وجاء في القرآن في آية واحدة في سورة البقرة ثناء على الجسم لكن تبعاً للإيمان والعلم، وذلك في قصة طالوت، قال الله عز وجل: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:٢٤٧] فإذا آتى الله الإنسان بسطة في العلم والإيمان وزاد الجسم كان ذلك طيباً لقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) لكن جسماً بغير دين ولا علم ولا إيمان لا يغني ولا ينفع:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتبعبت نفسك فيما فيه خسران

أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

لم تكتسب إنسانيتك أيها الإنسان من جسدك، ففي البهائم والحيوانات من هو أقوى من الإنسان، البعير أكبر جسماً من الإنسان، والأسد أقوى عضلات من الإنسان، والفيل أضخم جسماً من الإنسان، وهناك حيوانات أكثر ذكاء من الإنسان، الثعلب من أذكى المخلوقات، وهو أذكى من الإنسان، الثعلب بدهائه وبمكره يستطيع أن يغلب الإنسان في كثير من الأمور، بل حتى البعوضة تمتص دم الإنسان ولا يستطيع أن يمتنع منها.

إذاً! ليس سر التكريم في الإنسان هو الجسد؛ الجسد هو بمنزلة الجهاز، وهذا الجهاز لا يعمل بمفرده، لا بد من تشغيل له، وهو الذي سوف نتحدث عنه إن شاء الله الآن.