للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضرورة الصبر]

إن الصبر ضرورة، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان بغير صبر، إذاً فهو ضرورة لازمةٌ للإنسان، فمن صبر ظفر، فلولا الصبر ما حصد الزارع زرعه، أليس كذلك؟ فالمزارع عندما يضع الحب يلزمه أن يصبر أربعة أشهر، يصبر وهو يحرث، ويصبر وهو يبذر، ويصبر وهو يسقي، ويصبر وهو يحمي، ويصبر وهو يحصد، ويصبر وهو يدوس، ويصبر وهو يكيل، ويصبر وهو يخبز، ثم يأكل، متى جاء الأكل؟ جاء بعد مراحل متعددة، لكن لو لم يصبر، وقال: لا والله لا أتعب، أظل أحرث وأضع الحب وأنتظر أربعة أشهر؟! لا والله بل نتركها، ماذا يحصل له؟ هل سيجد حباً؟ لا.

فلولا الصبر ما حصد زارعٌ ثمراً، وما جنى غارسٌ جنياً، عندما تفكر بعين العقل وتقول: أنا الآن سأغرس شجرة وعمري أربعين سنة، الشجرة هذه عمرها عشر سنوات، متى أحصد منها؟! لا تفكر في ذلك، بل اغرسها وتوكل على الله.

مر رجلٌ على غارس شجرٍ وعمره أكثر من السبعين سنة، فقال له: كيف تغرس هذه وأنت ستموت قريباً؟ قال: نغرس ليأكل أبناؤنا؛ لأن آباءنا غرسوا قبلنا فأكلنا.

وهكذا لا بد من الصبر، ولولا الصبر ما جنى غارسٌ ثمراً، ولولا الصبر أيضاً ما حصل طالبٌ على شهادة، يمر الطالب أثناء العام الدراسي بمراحل مريرة من المعاناة والتعب، ويصبر على ألم قيام الصبح وهو يقوم الساعة السادسة والنصف، في البرد القارس، ومع كثرة النوم يذهب إلى المدرسة، وكأنه يمشي على وجهه، لكنه يصبر، ويدخل على المقعد البارد أمام المدرس الجافي أو المدير الغليظ الشديد، وأمام المناهج المعقدة التي كأنها حيات وعقارب يراها، لكنه يغصب نفسه ويصبر، ولو أنه قعد ونام إلى الساعة العاشرة كل يوم، هل سيأخذ شهادة ويحقق مرتبة ومنصباً؟ لا.

لكن بالصبر حصل ذلك، فما يحصل الطالب على الشهادة إلا بالصبر، ولا يحصل الموظف على المنصب أو الرتبة إلا بالصبر، ولا يحصل التاجر على الربح في البضاعة إلا بالصبر، المهم أن كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر، وكل الفاشلين في الدنيا إنما فشلوا بعدم الصبر.

انظر وتأمل تجد أن الصبر سبب كل نجاحٍ في الدنيا، وأن عدم الصبر سبب كل فشلٍ فيها، فالفاشل في دراسته لم يصبر، والفاشل في زراعته ما صبر، والفاشل في تجارته ما صبر، والفاشل مع زوجته ما صبر، والفاشل مع أهله وأمه وابيه ما صبر، ولكن بالصبر تنال أعلى الدرجات في الدنيا يقول:

إني رأيت وفي الأيام تجربةً للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقلَّ من جد في أمر يحاوله واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

ما من شخص جد في طلب شيء واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر، يخبرني رجل قال: كنت أعمل جندياً، حارساً في محكمة، وكان الكتَّاب والموظفون وبعض القضاة يرسلونني لأحضر لهم الفطور، فأحضر لهم الخبز في الصباح، إنه عمل متعب ومضني، فشعرت بذلة في نفسي، فطلبت العلم ليلاً وحصلت على الشهادة الابتدائية، ثم دخلت المعهد العلمي، وكان راتبي آنذاك وأنا في الجندية (١٥٠)، وفي المعهد العلمي (٢١٠)، وتركت الجندية والتحقت بالمعهد، وحَصَلْتُ على شهادة الثانوية العامة، ثم دخلت كلية الشريعة وحصلت على الشهادة، ثم أخذت الماجستير، ثم أخذت الدكتوراه، وإذا بهؤلاء كلهم يتوسطون بي.

فهذا الرجل لو بقي جندياً إلى أن يموت فسيلعق آلام الذلة طوال حياته، لكن عندما صبر على التعلم ومعاناته حقق له مستقبلاً طيباً، وهكذا -أيها الإخوة- لا بد من الصبر، وإذا كان هذا في أمر الدنيا فكيف لا يكون مهماً في أمر الآخرة.

إذا كانت الدنيا الدنيئة التافهة التي لا تزن عند الله جناح بعوضة، وهي بالنسبة لما خلق الله في هذا الكون شيء بسيط، ومع ذلك لا تحصل المقصودات ولا تنال المطالب فيها إلا بالصبر، فإنه لا يمكن أن تنال الآخرة العالية والجنة الرفيعة، بحورها وقصورها ونعيمها، وما أعد الله فيها، لا يمكن أن تنال إلا بالصبر.

وليس كصبر الدنيا، ليس كصبر الطالب على الدراسة، ولا كصبر التاجر على التجارة، ولا كصبر الزارع على الزراعة، لا.

إنه صبرٌ من نوعٍ آخر، إنه صبرٌ من الصبر، وهو مشتق من الصَّبِر الذي له مرارة متناهية.

- والصبر: هو حبس النفس على الشدة والضيق وما تعانيه مع الألم والمعاناة، وهو صبرٌ وتصبرٌ واصطبار، أوله الصبر ثم التصبر ثم الاصطبار، وهو صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على أقدار الله المؤلمة.

لا شك أن طالب الدنيا لا بد له من الصبر، وكذلك طالب الآخرة لا بد له من الصبر، وقد حمل الأمانة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:٧٢] الله أكبر! (وأشفقن منها) أشفقت السماوات والأرضين والجبال، وجئت أنت أيها الإنسان لتحمل الأمانة.

قال لي أحد الناس يوماً من الأيام: أنا ما حملت الأمانة.

قلت: كيف؟ قال: أنا والله ما أذكر يوماً من الأيام أني تحملتها فوق ظهري.

قلت: لا، أنت حملتها وأنت لا تدري.

قال: كيف؟ قلت: أليس عندك القدرة على أن تطيع الله وتعصيه؟ قال: نعم.

قلت: هذه الأمانة، هل عند السماوات قدرة على أن تعصي الله؟ قال: لا.

هي مسخرة، قال الله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [لقمان:٢٩] وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:١٣].

فسحب القدرة وجعل المخلوق هذا لم يحمل أمانة، أصبح إنساناً (ميكانيكياً) في العبادة، لكن عندما أعطاه الله القدرة على أن يسلك طريق الخير والشر، حمل الأمانة، أمانة ماذا؟ أمانة الاختيار الصحيح، فأنت الآن تستطيع أن تعصي الله؟ قال: نعم.

قلت: وتستطيع أن تطيعه؟ قال: نعم.

قلت: إذاً أنت حملت الأمانة، بينما السماوات والأرضون لم تستطع، وأشفقت منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً لنفسه، جهولاً بحق ربه ومعرفته بالله عز وجل.

فما دام أنك حملت الأمانة وعندك القدرة على الاختيار بأن تسلك سبيل الخير أو سبيل الشر، فلا خيار لك في أن تطيع الله تبارك وتعالى.