للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علاقة الصبر بأخلاق الإسلام كلها]

يشتمل الصبر على أخلاق الإسلام كلها، إذ لا أمر ولا نهي إلا والصبر أساس فيه، وانظر إلى جميع الأوامر التي أمر الله بها.

- الصلاة مثلاً: ما الذي يعينك عليها؟ الصبر، كونك تقوم من بيتك، ومن عشائك أو من فراشك وتذهب وكذلك تترك عملك، أو تغلق دكانك، وتتوضأ في البرد وتذهب إلى المسجد وهو بعيد، وتأتي فهذه تحتاج إلى أطنان من الصبر.

- والزكاة حينما تخرجها: ما الذي يجعل حب المال يخرج من قلبك، ويستعلي عليه حب الله ورسوله؟ الصبر.

- والحج: حينما تخرج من بيتك، وتقطع الفيافي والقفار وتقف في عرفات، وترمي الجمرات، وتدخل في الزحام، وتعرض نفسك للموت أكثر من مرة أو مرات هذا كله بالصبر.

- الصيام: حينما تصبر عن الطعام، وعن شهواتك، وعن زوجتك -وأنت تعاني هذا كله- بالصبر.

برك لوالديك، صلتك لأرحامك، صبرك على الناس، كل هذه الأوامر تأتي بها عن طريق الصبر على دين الله عز وجل.

بعد ذلك الشهوات كلها: كالعفة: ما هي العفة؟ عندما نقول: فلان رجلٌ عفيف، أو فلانة امرأة عفيفة، فالعفة: هي الصبر عن شهوة الفرج، وشهوة الفرج موجودة في كل إنسان، لكن يوجد رجل ينهزم أمام شهوته، وتوجد أنثى تنهزم أمام شهوتها فتمارس الجريمة، وتقع في لعنة الله وغضبه، وأخرى تترفع عن شهوة فرجها، وتتعفف وتلتحق بأهل العفة والطهر والنقاء، فتصبح عفيفة أو يصبح عفيفاً، لكن بماذا؟ بالصبر، فالعفة سببها الصبر.

- والشجاعة: كأن تقول: فلان شجاع، فما هي الشجاعة؟ - الشجاعة صبرٌ في موطن الموت، سئل عنترة -وهو مضرب المثل في الشجاعة- فقيل له: كيف صرت شجاعاً؟ فقال: ضع إصبعك في فمي، وأنا أضع إصبعي في فمك، قال: عض إصبعي وأنا أعض إصبعك، فلما عض كل واحد إصبع الآخر نزعها ذلك يوم عضها عنترة، قال: والله لو صبرت قليلاً لنزعت إصبعي قبلك ولكن كلما أردت أن أنزعها صبرت وصبرت، فالشجاعة صبر ساعة.

فالجبان لا يصير شجاعاً؛ لأنه لا يصبر، ولا يستطيع، بينما الشجاع يصبر فيثبت، فكل الأعمال والكمالات والفضائل تأتي عن طريق الصبر.

- كذلك الحلم، والحلم: هو صبر على دوافع الانتقام والغضب، تجد اثنين يحصل لهما مواقف تستثيرهما، فواحد صابر ضبط أعصابه، ووضعها في ثلاجة، وآخر لم يصبر بل يشتعل، ويحرق الناس، وبعد ذلك يندم على تهوره، وذاك لا يندم على صبره، ففي الحديث: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

هذا هو الشجاع، وهذا هو البطل الذي يتحكم في عواطفه، ويملك مشاعره عند الغضب، أما كونك عادياً في الحالات العادية، فليست هذه بدرجات كمال فيك، ولا يعرف الشيء إلا بضده، ولا يعرف حلمك إلا عند الغضب.

وفي الحالات العادية تكون حليماً طبيعياً فأنت حليم بطبيعتك، لكن متى يعرف حلمك؟ عند استثارتك، فالحلم: صبرٌ على كتم دوافع واستثارات الغضب والانتقام.

أيضاً سعة الصدر: يقال: فلان منشرح صدره واسع صدره عنده صبر عندما يضيق الصدر، لكن عندما يأتي شخص يدخل بيته يضيق صدره من أقل غلطة يراها، أو يضيق صدره من ضيف، أو من ولد، أو من زوجته، أو من مدير مدرسته، أو من مدرس أو موظف عنده، فهذا ضاق صدره، لكن إذا جاء بالصبر وسعة الصدر تجده يضيق صدره على امرأته فيوسعه، يقول: هذه أم أولادي، وهذه زوجتي، وإذا لم أصبر عليها فعلى من أصبر.

ويضيق صدره على ولده، فيأتيه الصبر ويقول: هذا ولدي ومن يوسع صدره له إذا لم أوسعه أنا، وهو أحسن من غيره، وأصبر عليه، وأوجهه، ويضيق صبره على موظفه فكذلك، وهكذا فعملية سعة الصدر، وتحويل الأمور من رأسٍ إلى عقب، ومن عقبٍ إلى رأس يأتي ثمرة للصبر.

كذلك القناعة: خلق كريم وهو صبر عن الكفاف، فالكفاف: رزق يكفيك لا لك ولا عليك، أي: قوت لكي لا تموت، وهذه منزلة القناعة التي تقنع بها، لكن إذا لم تكن عندك قناعة أيها الإنسان! وأنت تعيش مرتبة الكفاف فأنت تعيش في عذاب، تظل تنظر في كل شيء، وتتمنى كل شيء، ونفسك تستشرف كل شيء، ولا يحصل لك شيء، وإنما يحصل لك العذاب في نفسك، بينما بالقناعة تصبح زاهداً، وتصبح غنياً وإن لم يكن بيدك شيء، وتنظر إلى الناس فتقول: ما هذا؟ تنظر إلى الدنيا بماذا؟ بالقناعة.

والقناعة كنزٌ لا يفنى، لا ينقص منه شيء ودائماً يزيد، فكلما قنعت زادك الله عز وجل في كنزك، وكذلك ضبط النفس والرضا بالقضاء، والزهد في الدنيا، هذه الأمور كلها لا تأتي إلا بالصبر.

فغض البصر عن النظر المحرم صبر، عندما ترى امرأة متبرجة في الشارع فتغض بصرك، بماذا غضضت بصرك؟ بصبرٍ عن المحرم.

- صيانة أذنك عن سماع الأغاني: جاءت نتيجة الصبر على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، فالمهم أن جميع أعمال الإسلام من الأوامر أو النواهي لا تنال إلا بالصبر.

الصبر قاسم مشترك وقاعدة مهمة في حياة المسلم، ولذا قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٣] لماذا الله معهم ويؤيدهم وينصرهم؟ لماذا الله يكتنفهم برعايته ومحبته؟ لأنهم معه، يصبرون له، ويصبرون به، ولا يصبرون عنه.

يقول ابن القيم رحمه الله: الصبر ثلاثة أقسام من حيث نهايته: صبرٌ لله، وصبرٌ بالله، وصبرٌ عن الله.

فصبرٌ لله: بترك معصيته.

وصبرٌ بالله: بفعل طاعته.

وصبرٌ عن الله: وهو أسوأ أنواع الصبر، أن تصبر عن الله بفعل المعاصي، وكثير من الناس الآن يعملون المعاصي من أجل ماذا؟ يقول: أريد أن أشرح صدري وأستريح، وهو يحاول أن يغطي ما في قلبه من العذاب بالمعاصي ليصبر عن الله، ومن هو الذي يصبر عن مولاه، إلا من لا يحب الله.

هذا -أيها الإخوة- ما يتعلق باقتران الصبر بالمراتب العليا والكمالات التي جاء الإسلام ليربي الناس عليها.